بقلم: أحمد الطناني

الجبهة الشعبية والتخلي عن الحل المرحلي.. فلسطين الهدف والبوصلة

انطلاقة الجبهة الشعبية.jpg

مركز حنظلة_غزة

في مهرجانها المركزي إحياءً للذكرى الـ55 لانطلاقتها، أكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على لسان نائب أمينها العام جميل مزهر، أن الجبهة تمضي بمسيرة الكفاح والمقاومة، تَرسم مَعالمَ عامٍ مضى، وعامٍ جديدٍ من الكفاح، وقفتْ فيه الجبهة مع ذاتها وقفةً جدِّيةً في المؤتمر الوطني الثامن، خاصةً أمام برنامجها السياسي، مضيفًا أن الجبهة أزاحت في هذا المؤتمر الخيارَ المرحليَّ عن الطاولة وعدَّته بوابةً للتنازلات، وعادتْ إلى خيارها الاستراتيجي فلسطين كلِّ فلسطين، مضيفًا أن الجبهة تؤكِّد أنه لا حلول ولا تسوياتٍ ولا مفاوضات، فإما فلسطين أو النار جيلًا بَعدَ جيل.

إعلان الجبهة الشعبية الذي جاء مترافِقًا مع خطواتٍ عمليةٍ طَرَحَها نائب الأمين العام، جاء في أول مهرجان جماهيري ضخم بعد انعقاد المؤتمر الثامن للجبهة، الذي جدَّد في عضوية هيئاتها القيادية، ووَقَفَ أمام التجرِبة بالنقد والتقييم والتقويم، على الأصعدة كافة، وفي المقدمة منها البرنامج السياسي، الذي تخلَّى بوضوحٍ عن الحل المرحلي، وتمسَّك بالخيار الاستراتيجي، كلِّ فلسطين مِن نهرها إلى بحرها، ليس من باب الشعاراتية أو رفع العناوين البرَّاقة، لكنه من تشخيصٍ دقيقٍ وواقعيٍّ للمنحدَر الذي تسير فيه القضية الفلسطينية، والسقف المتهالك للحقوق والبرامج السياسية.

هذا المنحدَر المستمر، الذي يأتي وسط مشهدٍ صهيونيٍّ متصاعد في الإجرام والفاشية والتشدد، وقضمٍ استيطانيٍّ يتمدد تدريجيًّا ويلتهم الأرض الفلسطينية بتوحش في الضفة الغربية و القدس، وسط عجزٍ فلسطينيٍّ رسميٍّ يكتفي ببيانات الإدانة والالتزام بالاستحقاقات الأمنية لاتفاق "أوسلو"، الذي داسته الدبابات الصهيونية منذ أكثر من 20 عامًا وما يزال أصحابه يتمسكون بوَهمِ التسوية.

البرنامج المرحلي

منذ أن طَرَحَ وزير الخارجية الأمريكي "هنري كسينجر" مشاريعَه للتسوية في المنطقة على إثر تداعيات حرب 1973م، بدأ الحديث شبه العلني عن البرنامج المرحلي، الذي قُدِّم في حينها على شكل برنامج النقاط العشر، الذي تقدمت بمسودته الجبهة الديمقراطية إلى المجلس الوطني في دورته الثانية عشرة في يونيو/حزيران 1974م إذ جرى إقراره.

انسحب كل من الجبهة الشعبية والقيادة العامة احتجاجًا على إقرارِ المشروع، وفتحِ بوابة الهبوط بالموقف الوطني الفلسطيني، وبعد تعليق عضويتها في المنظمة، عادت الجبهة الشعبية إلى المنظمة، إلا أن منظمة التحرير لم تَعُدْ كسابق عهدها، فتلك الخطوة كانت الأُولى نحو كسر الإجماع الفلسطيني وتفتيت وحدة فصائله الفاعلة.

كان من أهم ما وَرَدَ في البرنامج، بما يشير إلى تراجعٍ واضحٍ عن الميثاق الوطني، البندُ المتعلقُ بالكفاح المسلح، حيث "تناضِل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها"، وهو مؤشرٌ على انخفاض السقف الوطني من تحرير كامل التراب الفلسطيني الى الأراضي التي احتُلَّت عام 1967م أو أقل من ذلك، وكذلك من اتخاذ الكفاح المسلح استراتيجيةً إلى وسيلةٍ للتحرير من بين وسائل أخرى سياسية ودبلوماسية وشعبية.

بوابة التنازلات

لم تكُن خطورة البرنامج المرحلي في كونِه يمثِّل انزياحًا عن موقف الإجماع، أو هبوطًا في منطلقات الثورة والميثاق الوطني فقط، لكن الخطير أنه كان ممرًّا وبوابةً للتنازلات والهبوط المتتالي في السقف السياسي والقبول بالفتات على حساب تضحيات الشعب الفلسطيني، لتتوالى التنازلات تدريجيًّا، إذ تضمنت الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني المنعقدة في الجزائر 1988م إعلانَ الدولة الفلسطينية على أساس حل الدولتين والقرار 242 الذي أعقب حرب عام 1967م.

كان الإعلان مدخلًا لِمَا حَدَثَ بعد ذلك في "جنيف" 1988م، حيث جرى الاعتراف بـ"إسرائيل"، "ونبذ الإرهاب"، وقرارات مجلس الأمن 242 و338، في مقابل وعود بفتح الحوار مع الإدارة الأميركية بشأن التوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية.

لم يتوقف مسلسل التنازلات هنا، بل وصلت القيادة المتنفِّذة في المنظمة نحو مؤتمر "مدريد" للسلام عام 1991م، بعد عقد دورة المجلس الوطني العشرين في الجزائر عام 1991م، حيث تبنَّت عدة قرارات أهمها "ضرورة انعقاد مؤتمر "مدريد" على أساس القرارين 242 و338 تحت شعار "الأرض مقابل السلام".

كُلِّل مسلسل التنازلات الفلسطيني من القيادة المتنفِّذة بالوصول لتوقيع اتفاق "أوسلو" عام 1993م، وما رافقه من تجريف للثوابت الفلسطينية التي تضمنت الاعتراف بإسرائيل على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، و"نبذ العنف والإرهاب"، وترتيبات أمنية تشمل التنسيق الأمني لمحاربة المقاوَمة، وتأجيل الحديث عن القدس واللاجئين والحدود، في مقابل اعتراف "إسرائيل" بمنظمة التحرير وإقامة سلطة حكم ذاتي على بعض المناطق التي تنسحب منها "إسرائيل" من الضفة الغربية وقطاع غزة.

وعلى الرغم من أن الدبابات "الإسرائيلية" داست، في خلال اجتياح الضفة الغربية في سنة 2002، على هذا الاتفاق الذي لم يَعُدْ مطروحًا "إسرائيليًّا"، إذ بات المطروح السلام الاقتصادي. الدولة الفلسطينية لم تَعُدْ مطروحةً، بل المطروح ترتيبات إدارية في سياق السلام الاقتصادي، إلا أن أصحاب هذا المسار ما يزالون يتمسكون به وما يزالون ملتزمين باستحقاقاته الأمنية التزامًا كاملًا!

الوقفة مع الذات شَجاعة

على الرغم من أن الجبهة الشعبية، وفي سياق معيَّن، قد سبق وأن قَبِلَت بإدراج الحل المرحلي، على قاعدة الخيار التكتيكي ومع تقييدات واضحة بأنه ليس بديلًا عن الخيار الاستراتيجي ووَضَعَت شرط عدم الاعتراف بدولة الاحتلال، واتخاذ الحلِّ المرحلي جسرًا نحو التحرير الكامل، إلا أنها لم تتعامل مع نصوصها على أنها نصوص جامدة ثابتة غير خاضعة للتقييم والمراجعة، بل إن الجبهة ترفع النقد والنقد الذاتي شعارًا وناظمًا أساسيًّا في كل تفاصيل عملها، ومن هذا المنطلق وَقَفَت بشجاعة أمام برنامجها السياسي وأمام المشهد السياسي الفلسطيني ككل لتقييم خيارٍ منذ أن أُدرِج في أدبياتها لم يُشكِّل موضع إجماع أو موافَقة من كادرها أو قيادتها، وطرحت التساؤل الرئيس: أين أصبنا وأين أخطأنا وأين يجب أن نعدِّل ونقوِّم؟

شخَّصَت الجبهة الشعبية الحل المرحلي على أنه مثل بوَّابة لتقديم المزيد من التنازلات أمام الموقف "الإسرائيلي" الواضح، الذي داس حتى اتفاقية "أوسلو"، ويريد اليوم ضمَّ الضفة كلِّها، مؤكِّدةً أمام جماهيرها أن أُولى خطوات العلاج واستعادة المشروع الوطني الفلسطيني تتمثَّل بالتخلي عن كل الصيغ التنازلية، والعودة إلى الأساسات: التمسك بفلسطين كلِّ فلسطين.

تَعِي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن خيارها بالتمسك بالحل الاستراتيجي لن يكون طريقًا مفروشًا بالورود، وليس شعارًا للاستهلاك، بل تمسك بسبيلٍ عماده تصعيد المقاومة وتوسيع دوائر فعلها وتأثيرها، وثمنه سيكون المزيد من التضحيات لإعادة تصويب البوصلة الوطنية، ووقف مسلسل التنازلات.

اختارت الجبهة الشعبية التوقيت الذهبي لهذا الخيار، إذ إننا على موعد مع حكومة صهيونية متطرفة تنوي ابتلاعَ ما تبقَّى من الأراضي الفلسطيني وضمَّ الضفة الغربية وتهويدَ القدس، ولا تقبل حتى بالحديث عن خيار "حل الدولتين"، بالتالي فإن الجبهة الشعبية وَضَعَت الأمور في نصابها، فالتطرف والإرهاب الصهيوني لن يُقابَل بالتنازلات ولا بالانحناء للموجة، بل بالمواجَهة وتصعيد المقاومة والتمسك بالحقوق الفلسطينية الثابتة.

استراتيجية وطنية وتيار شعبي

في كلمة الجبهة الشعبية المركزية، التي قدَّمها نائب أمينها العام جميل مزهر، أتبَعَ الرفيق مزهر إعلانه عن التخلي عن الحل المرحلي بالإعلان عن خطوتين عمليتين ستشكِّلان مدخلًا مهمًّا في إطار استعادة زمام المبادرة في المشروع الوطني الفلسطيني، مرتبطتين بثنائية المقاوَمة والوَحدة.

أكد الرفيق مزهر أن الجبهة ماضيةٌ في عملها لأجلِ صوغِ "استراتيجيةٍ وطنيةٍ موحَّدةٍ" على أسسٍ وطنيةٍ تتمسَّك بالمقاومةِ خيارًا رئيسيًّا وتَحمي الحقوقَ وتَضمن الحرِّياتِ وتجسِّدُ العدالةَ الاجتماعيةَ وتتصدَّى لجماعاتِ المصالحِ و"لوبيَّاتِ" الفسادِ وتُدافِع عن حقوقِ اللاجئين وتعزِّز صمودَ شعبِنا في الداخلِ المحتل.

كما أكد أن الجبهة ماضيةٌ مع كلِّ الحريصين مِن القوى السياسية والمجتمعية والشخصيات الوطنية المستقلة لتشكيلِ تيَّارٍ وطنيٍّ وشعبيٍّ عابرٍ للجغرافيا والفئوية، هدفُه استعادةُ الوَحدة وتنفيذُ اتفاقاتِ المصالَحة واستعادةُ وَحدةِ الميدان.

سعيُ الجبهة الشعبية لتثبيتِ الاستراتيجية الوطنية وتدشينِ التيار الشعبي مقترنٌ بتشخيصٍ دقيقٍ للواقع، أن لا مشروع وطنيًّا دُون برنامج، والبندقية غير المسيَّسة ستكون قاطعةَ طريق، وأن الفعل المقاوِم كي يؤتي ثماره ويكون بحجم التحديات يجب أن يتكامل ضمن الاستراتيجية الوطنية المقاوِمة التي تتوافق عليها القوى الفاعلة.

كما أن الجبهة، إلى جانب استثمارها في تصعيد وتفعيل وتوسيع المقاوَمة والاتفاق على استراتيجيات استثمارها الأمثل، لن تَقبَل باستمرار الانقسام والتفرد بالقرار الفلسطيني، ومن هنا تنطلق ضرورة تشكيل التيار الشعبي الواسع الذي سيتجاوز كل الحساسيات الفئوية، مرتكزًا إلى ضرورة تحقيق الوَحدة الوطنية ومغادَرة مربَّع الانتظارية السلبية وإيقاف مسلسل رهن الشعب الفلسطيني لقرارات المنقسمين وأجنداتهم.

تَعِي الجبهة الشعبية بوضوح أن الوقت مِن دم، وأن التاريخ لن يرحم أحدًا، وأن ضرورات المرحلة تتطلب مبادَرةً شُجاعةً وثوريةً تَقرع جدران الخزَّان بقوة، لتعِيد البوصلة إلى موقعها الصحيح، إلى فلسطين كلِّ فلسطين من نهرها إلى بحرها، جنبًا إلى جنب مع كل المخلِصين.