بقلم الأسير: كميل أبو حنيش..

مقال بعنوان: "على صفيحٍ ساخن" الحلقة العاشرة

كميل أبو حنيش.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

الحلقة العاشرة: الثمرة المُحرمة 

تقتضي الضرورة السياسية، أن تُتوج الجهود والتضحيات بعد مرحلة الثورة ونجاحها بإقامة الدولة وممارسة السلطة. فلكلِ مرحلةٍ شروطها وظروفها وأعبائها ورجالها وآلياتها وأدواتها ووسائلها وأهدافها وسياقها ومبادئها وإشكالياتها؛ ففي مرحلةِ الثورة- أي مرحلة التحرر الوطني- تجري عملية حشد الطاقات الشعبية والسياسية والاجتماعية والثقافية والكفاحية والاقتصادية، وتركيزها في المعركة، لإنجاز المهمة التحررية، وتكون الأولويات كلها مُكرسة في خدمة الثورة وأهدافها، ولا تصدفها انشغالاتٍ أخرى - كممارسة السلطة - عن مهمتها، التي تقتضي الإرادة الصلبة، والحنكة في إدارة المعركة للوصول إلى الغاية المنشودة في دحر عدوها، وتشييد دولتها.

وفي مرحلةِ الدولة وبناؤها يتغير المناخ الثوري لصالح المناخ السياسي، وما ينطوي عليه من صراعاتٍ وتناقضاتٍ، وما تحتاجه المرحلة لخبرات التكنوقراط والفنيين، وأصحاب الاختصاص، وكيفية ممارسة السلطة (السياسية) وإدارة تناقضات تلك المرحلة المختلفة تماماً عن مرحلة التحرر الوطني.

ومن البديهي أن تنتهي مرحلة التحرر الوطني، وتبدأ مرحلة الدولة إما بانتصارٍ ساحقٍ تحرزه الثورة على عدوها وترغمه على الانسحاب من بلادها، وإما نتيجة لعملية مفاوضات تلجأ إليها قوى الثورة مع عدوها، لترتيب انسحابه من البلاد، وعقد تسوية محددة معه، وفي هذه الحالة، تذهب الثورة إلى هذا الخيار وهي مسلحةً بانتصارها أو بأوراقِ ضغطٍ ناجعةٍ ومؤثرة، تتيح لها تحسين شروط مفاوضاتها مع عدوها وهزيمته في ميدان السياسة، بعد هزيمته في ميدان القتال.

غير أن خطيئة الثورة تَتمثّل في وقوعها في مصيدةِ الإغراء، وإصرارها على تذوق ثمرة السلطة المُحرمة، وهي لا تزال في مرحلة التحرر الوطني، ولم تنجز أيٍ من أهدافها بعد، ناهيكم عن إخفاقها في ميدان القتال، وذهابها إلى مفاوضةِ عدوها، وهي منهكة وضعيفة، عندها ستكون الثمرة/ السلطة فجةٌ، لا تسمن ولا تغني من جوع.

كان يتعين على الفلسطيني، أن يُحَرّم على نفسه تذوق ثمرة السلطة المُحرمة، وهو لا يزال يخوض معركة التحرر الوطني، لئلا يُصاب بضعف المناعة الوطنية، وينهمك في مقتضيات ممارسة السلطة وتبعاتها، وهو يخوض صراعه الوجودي، مع السلطة المحتلة، صاحبة السيادة الفعلية على الأرض.

ومن المفارقات، أن الفلسطيني ما قبل محطة النكبة، تفادى الوقوع في أغواء مصيدة السلطة، مع أن شروط مرحلته التاريخية، كانت تسمح له بالوقوعِ بمصيدتها، وهو في حالة من الضعفِ والتخلفِ، وقلة الخيارات السياسية، ويواجه قوةً استعماريةً جبارة، مُمثّلةً ببريطانيا العظمى، والتي كان بمقدورها إيقاع مختلف شعوب المنطقة في مصيدةِ السلطة، وبترتيب تلك السلطات، بما يضمن لها الهيمنة الدائمة عليها. في حين وقع الفلسطيني في مرحلة الثورة في أغواء السلطة، وهو لا يزال يقبض على زناد بندقيته، ويمتلك من الخيارات والوعي والأدوات ما لم يكن يمتلكه الفلسطيني في أيةِ مرحلة سابقة.

شَكلّ البرنامج المرحلي، الذي أقُر في عام 1974، الإغواء الأول للفلسطيني، وهو في أوج ممارسته للثورة، لتذوق ثمرة السلطة وممارستها، وهو لا يزال في بدايات معركته الشاقة، وبقيت تلك الثمرة المُحرمة في مرحلة الثورة، تثير شهوته للاستعجال بقطفها، ولم يدخر جهداً، في البحث عن مسارات أقرب لتوصله إليها، حتى وإن جاءت نتيجةً لعملية تسوية مع العدو.

كانت محطة أوسلو، تُعبّر عن اخفاق الثورة في إنجاز مهامها، والانشداد إلى السلطة بأيِ ثمن؛ فكان خيار الذهاب إلى التسوية، بأيدٍ فارغةٍ من أيِ سلاحٍ أو أيِ ورقةِ ضغطٍ، وبشروطٍ تاريخيةٍ وسياسيةٍ مجافية تمامًا، ولا تسمح بفرض شروط أو تحقيق أيةِ مكاسبٍ سياسيةٍ ملموسة، أي أنها ذهبت لخيار التسوية، وموازين القوى مختلفةً تماماً لصالح عدوها، الذي مَكنّه بسهولة من إيقاعها في المصيدة، وتكبيلها بالاتفاقيات وبقيودِ السلطة، من دون أن يتاح لها الانفكاك، أو التراجع إلى الوراء، أو التقدم إلى الأمام.

لقد اعتقد المفاوض الفلسطيني، أن التسوية ممرًا إجباريًا للوصول إلى أهدافٍ أخفقت الثورة في انجازها، وأن اقتناصه لفرصة ممارسة السلطة، من شأنه أن يفرض واقعاً جديداً ويعزز من المكانة السياسية الفلسطينية، ويرغم الاحتلال على الإذعان والتسليم بالحقوق الوطنية، وأعتقد أن سلاح الشرعية الدولية وحده كافٍ للوصول إلى هدف الدولة.

لكن تبين للفلسطيني استحالة الجمع بين السلطة والثورة في المرحلة التحررية، لأن كل حالةٍ لها شروطها وخطابها وروادها. فإذا كانت مرحلة الثورة تنطوي على عطاءٍ وتضحياتٍ وزخمٍ ثوريٍ وقلاقل، فإن مرحلة السلطة/ الدولة تنطوي على حالةٍ من الاسترخاء والبحث عن المكاسب والغنائم، وتبرز فئات وطبقات ومراكز قوى، لم تكن ظاهرةً للعيانِ في زمن الثورة، فتحتدم التناقضات، بين مكونات المجتمع، وتنفجر صراعات المصالح، ويسود التنافس، وينهمك الجميع في معادلة الصراع الداخلي على تشكيلِ السلطة، فيما يجري إهمال الصراع مع الخارج، أي مع الدولة المحتلة، التي لا تزال صاحبة السيادة الفعلية على الأرض.

وفي الملموس، كانت تجربة الانتفاضة الأولى، تُعبّر عن حالةٍ ثوريةٍ عامة، وكانت مجمل القوى الشعبية والوطنية تحشد جهودها لمجابهة المحتل، وإرغامه على الانسحاب من الأراضي المحتلة، واحتملت كل صنوف الممارسات الاحتلالية الاجرامية، وصمدت مدة سبع سنوات، ولم يكن يؤرقها، لا تجسيد السلطة ولا غيرها، إذ كانت خاضعةً تماماً لشروط المعركة التحررية التي تقتضي الانشداد التام، للعملية الكفاحية ومتطلباتها حيث عكست ثقافة الانتفاضة، حالة من التضامن والوحدة والتلاحم، والانسجام والتوافق بين مختلف الفئات والمكونات والطبقات الاجتماعية على ديمومة الانتفاضة، إلى أن تنجز أهدافها الوطنية.

لقد مَثّلت الانتفاضة حدثًا ثوريًا شعبيًا نادرًا في حياةِ الفلسطينيين، واستطاعت أن تُكنس كل مظهرٍ سلبيٍ، من شأنه أن يُعطّل مسارها، أو يطغي على ثقافتها الوطنية الثورية، وقمعت كل سلوكٍ لا يتلاءم مع المرحلةِ التحررية، ولم تسمح باندلاع أي صراعاتٍ في غيرِ أوانها، أو بظهور مراكز قوى، تُعبّر عن مصالحها الفئوية أو العائلية أو الشخصية أو الطبقية، لأن الانتفاضة ببساطةٍ، كانت تعبيرًا عن الممارسة الثورية، وما تقتضيه شروط تلك الممارسة، وذلك من دون أن تمتلك الجماهير الثائرة، أيةِ نظريةٍ ثوريةٍ تُحدد لها بدقة طبيعية مهمتها الثورية، أو حدود تراكم أفعالها وفعالياتها، وإنما اقتصرت الممارسة الثورية الشعبية على الحس العفوي والوطني المتأثر بممارسات الاحتلال، وبتوجيهات قيادة وطنية أفرزتها حالة الانتفاضة الجارفة، سعت بكل قواها لتوجيه وتوعية الجماهير الثائرة، وتركيز طاقاتها في ميدان المعركة، إلى أن تنشأ ظروف تسمح بدحر الاحتلال، والانتقال إلى مرحلة بناء الدولة.

لقد أظهرت الانتفاضة، مستوى صحة المناعة الوطنية، وأفصحت عن الاستعداد الكفاحي العنيد، لمواصلة المعركة حتى النهاية، وكانت سنواتها السبع، خير دليل، على قدرتها على تطوير أدواتها، وممارستها للفعل الثوري، وعلى إرباك العدو، وإفقاده السيطرة على زمام الأمور.

غير أن توقيع اتفاقيات أوسلو، والافصاح عن هدف تشييد السلطة، فيما لم تنتهِ المرحلة التحررية  أوقع من وقع على هذه الاتفاقية في مصيدةِ إغواء تذوق ثمرة السلطة، الأمر الذي دفع إلى الانقسام، وتلاشي حالة الزخم الثوري، والانشداد إلى إغواء السلطة على حساب متطلبات استكمال المعركة التحررية، فساد مناخ من الاسترخاء والاحباط والانشداد إلى الذات على حساب القضايا الوطنية، واستيقظت الأحلام والأوهام من مراقدها وأطلت برأسها بعض المظاهر السلبية التي وأدتها الانتفاضة، وراحت تنمو وتَتشّكل مراكز قوى، أخذت تهيئ نفسها، لاقتناص حصتها من كعكة السلطة القادمة.

وما أن تَشكّلت السلطة عام 1994، حتى راح يَتشكّل واقعٌ سياسيٌ واقتصاديٌ واجتماعيٌ وثقافيٌ وأمنيٌ جديد لم يألفه الفلسطيني، وهو لا يزال يعيشُ تحت الاحتلال.

وبمعزلٍ عن التحسن الذي طرأ على الأراضي المحتلة في أعقاب تَشكّل السلطة وعن ما تحقق من انجازاتٍ متنوعةٍ في ظلها على كافة الأصعدة، فقد مَثّل التشابك بين مهمات بناء السلطة وما نجم عنها من تَحوّلاتٍ وبين مهمات التحرر الوطني وما تستدعيه من نضالاتٍ، إحدى الإشكاليات الصعبة التي واجهت الشعب الفلسطيني منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.

وانطوت تلك العملية المتشابكة في المهمات، على بروز شكلٍ جديدٍ في النضال أطلق عليه "النضال الديمقراطي" الذي يهدف إلى تحسين شروط الحياة للمواطن الفلسطيني في ظل السلطة الجديدة وممارساتها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية.. الخ.

شَكلّت حركة فتح والتيارات المتحالفة معها العمود الفقري للسلطة إلى جانب التحالف مع رأس المال الفلسطيني الخارجي والمحلي، ومزيج من الفئات والطبقات ومراكز القوى والعشائر، فيما لم تشارك بقية الأحزاب والفصائل وفئاتٍ أخرى إما لأسبابٍ سياسية، ترتبط بمعارضتها للتسوية وإفرازها المُتمّثل بالسلطة، وإما بسبب سياسة الإقصاء والاستئثار بالسلطة والهيمنة عليها، وعلى مجمل شؤون الحياة في المجتمع الفلسطيني، وأخذت بنية أجهزة السلطة بالترسيخ، وكشفت عن بيروقراطيةٍ واسعةٍ متضخمة، لأسبابٍ مختلفة، وأخذ ينمو داخل السلطة وفي أطرافها مراكز قوى، لم يلبث أن راح يحتدم الصراع فيما بينها، وطوال ثلاثة عقود من تجربة السلطة، أسفرت عن تحولاتٍ عميقة، طالت مجمل الحياة الفلسطينية، وخلقت تفاوتاً طبقياً حاداً في المجتمع، حيث ازدهرت أوضاع الطبقة البرجوازية التي عَمقت من تحالفها مع السلطة، واتسعت الطبقة المتوسطة، وتنامى الفقر والبطالة لدى الطبقات الفقيرة وشرائحها المختلفة وازدادت أوضاعها سوءً، الأمر الذي تسبب في نهاية المطاف، بتنامي حالة السخط والإحباط والعزوف عن النضال الوطني، وعن أيةِ أنشطةٍ سياسية، وراحت تتآكل بنية الفصائل، ويتراجع دورها، ولم تفلح السنوات الخمس للانتفاضة الثانية في رأب الصدع الوطني - السياسي والاجتماعي.. بل وازدادت الأوضاع سوءً بعد انحسار الانتفاضة وتفاقمت بعد الانقسام الوطني، وما وَلدّه من نتائجٍ سلبية أضعفت من المناعة الوطنية، وأفرز الواقع ظواهراً لم يألفها الفلسطينيون من قبل: تنامي النزعات الاستهلاكية المفرطة وسلوكيات اجتماعية تنطوي على الانحطاط الأخلاقي والقيمي والفساد واللصوصية والمحسوبية.

أما الصدمة الكبرى التي خلفتها اتفاقيات أوسلو، وممارسات السلطة في وقتٍ لاحق، في وعي الجماهير، فقد تَمثّلت في انتهاك المحرمات التي كانت سائدة في زمنِ الثورة، كالاعتراف بشرعية وجود "اسرائيل"، وإبداء الاستعداد للتعاون الأمني معها، وملاحقة المقاومة وسلاحها، وزج المناضلين في السجون، وقمع الحريات العامة، وتضييق الخناق على الرأي العام وحق التظاهر وحرية التعبير والصحافة والنشاط السياسي، مما أحدث شرخاً في الثقة ما بين المواطن وما بين السلطة، وراح يلجأ للمفاضلة بين ممارساتها وممارسات السلطة الاحتلالية.

ومن ناحيةٍ ثانية، شَكلّت الوظائف والرتب والرواتب والامتيازات والمسميات الوظيفية، في أجهزةِ ودوائر السلطة، إحدى أهم الأزمات المتفاقمة، واتهام السلطة بالمحاباة والفساد وشراء الذمم، وتشجيع ثقافة التسلق والوصولية، وتجاوز عدد موظفي السلطة المئة والخمسين ألفًا، حتى باتت معظم موازنتها تصرف على الرواتب، وأصبحت السلطة وسيلة الاسترزاق المباشرة وغير المباشرة لمختلف الطبقات والشرائح والفئات، مع الوقت ترسخ الاعتماد على السلطة، وانتظار الراتب، الذي بات يتأثر بالتطورات السياسية والأمنية.

ومن ناحيةٍ ثانية، ساهمت التسوية بتدفق أموال المانحين وتنامي أعداد المؤسسات المعروفة بـ NGO's التي باتت تعتمد في مشاريعها على التمويل الأجنبي، مما ساهم بظهور طبقة تعتمد في وسائل عيشها وعلاقاتها ومشاريعها وأنشطتها على التمويل الأجنبي الذي كثر اللغط حوله، وحول أهدافه الحقيقية وطبيعة الدور الذي باتت تؤديه تلك المؤسسات وأصحابها وموظفيها، ومدى خدمة أنشطتهم للعملية التحررية، حيث أثُيرت تساؤلات مشروعة حول تلك المؤسسات وأهدافها والدور الحقيقي الذي باتت تلعبه في حياة المجتمع الفلسطيني.

تنبع الإشكالية الرئيسية للسلطة، في كونها مصممة لمرحلةٍ انتقالية مدتها خمس سنوات، بيد أن استعصاء عملية التسوية وعدم الوصول إلى حلٍ سياسيٍ ينهي الصراع مع الاحتلال، أدى إلى تحويلها، بقوة الأمر الواقع، إلى "سلطةٍ انتقاليةٍ دائمة"، مع أن مؤسساتها تطورت طوال ثلاثة عقود، وصارت ترقى إلى مؤسسات دولية، يلزمها الانعتاق والاستقلال عن سلطة الاحتلال وحسب.

وفي ضوء تعثر مشروعها في التَحوّل إلى دولة، مع استمرار ممارسات الاحتلال اليومية، وعجزها عن لجم عدوانه وتوسع نشاطه الاستعماري، بات يتعذر على قطاعات جماهيرية واسعة، العودة إلى الممارسة الثورية التي تقتضيها العملية التحررية، بسبب هذا الواقع المركب والغريب.

فمن دون استعصاء الحالة العامة وانفجار أزماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا يمكن للواقع أن يعود إلى حالته التحررية قبل نشوء السلطة، وهو استعصاء لا تسمح السلطة الاحتلالية، بالوصول إليه، وذلك بحكم سيطرتها التامة على مجمل مقدرات السلطة الفلسطينية، من الخارج على الأقل، وبهذا يسعى الاحتلال لإدامة أمد اللحظة الراهنة لأطول فترة ممكنة حتى يكون بمقدورها فرض المزيد من الحقائق على الأرض، قبل أن تنشأ ظروف تسمح بالانفجار الشامل.

وقد نشأت إشكالية أخرى نابعة من الأولى، تَمثّلت بوقوع جميع الأطراف في المصيدة، بما فيها المعارضة، حين آثروا تذوق ثمرة السلطة المحرمة، فأنتجت تلك الاشكالية انقساماً دموياً أدى إلى ولادةِ سلطةٍ جديدة، تتبنى المقاومة منهجاً، مع أنها لا تختلف كثيرًا في ممارستها وأدواتها وآليات عملها، عن السلطة الأخرى، وإن كان ثمة تباينات في الخطاب والعلاقة مع الاحتلال ومع الخارج، إلا أنها وقعت هي الأخرى في مصيدةِ السلطة، ومَكنّت الاحتلال من السيطرة عليها من الخارج، وإذا كانت السلطة الأولى، فتحاوية الشكل والمضمون، فإن السلطة الأخرى، باتت حمساوية الشكل والمضمون.

مع صيغٍ وتحالفات وتشابكات من هنا وهناك على هامش السلطتين المتصارعتين، سياسيًا، اللتين يجري التحكم بهما والسيطرة عليهما من الخارج من قبل السلطة الاحتلالية صاحبة السيادة الفعلية على الأرض.

ومنذ ما يربو على خمسة عشر عامًا من عمر الانقسام، وولادة السلطة الثانية، المحاصرة والمُجوّعة، يسعى الاحتلال لتطويعها وبناء قواعد لعبة جديدة معها، وإن اختلفت من حيث الشكل قواعد اللعبة مع السلطة الأولى، فإن من حيث المضمون يُطبق الاحتلال سياسة احتواءٍ مزدوج لكلا السلطتين، من خلال تكريس الانقسام وتعزيزه، ومقايضة ومساومة كلتاهما على لقمة العيش، وبعض التفاصيل اليومية، والاجراءات التي تسمح لهما بالبقاء على قيدِ  الحياة.

ولعل أخطر ما يخطط له الاحتلال، يتمثل باستيلاء المزيد من السلطات، وذلك بانتظار انفجار الأوضاع من داخل سلطة الضفة، ونشوب صراعٍ بين أقطاب السلطة ومراكز القوى في داخلها، مما يدفع إلى تقويض السلطة القائمة ونشوء عدة سلطات على أنقاضها، تتولى كل واحدةٍ إقليماً وترتبط كل واحدة منها مع الاحتلال، وبهذا تجري عملية تقويض المشروع الوطني الفلسطيني، وإعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية الصهيونية، على نحوٍ أكثر تطورًا وتحكمًا.

وقبل أن يفوت الأوان، يتعين على النخبة الفلسطينية الكف عن التلاوم والمهاترات، والعمل بشكلٍ جدي على إنهاء الانقسام والعودة إلى مربع الوحدة والحوار، وبناء البيت الفلسطيني ممثلًا بمنظمة التحرير الفلسطينية، على أسسٍ وطنيةٍ وديمقراطية تستوعب الجميع، واستكمال العملية التحررية عبر الاتفاق على برنامجٍ موحد، واستراتيجيةٍ وطنيةٍ موحدة، وأشكال كفاحيةٍ تحددها الرؤية السياسية الموحدة.

أما السلطة، فينبغي ألا يتبرأ أحدٌ من تذوق ثمرتها المُحرمة في مرحلة التحرر الوطني، وألا يتهرب أحدٌ من تَحمّل مسؤوليته الوطنية، تجاه تبعاتها واستحقاقات تطويرها وتثويرها من الداخل والخارج، وتحريرها من قبضة المستعمر وهيمنته عليها، وتحويلها من سلطة الحزب الواحد، إلى سلطةٍ وطنيةٍ حقيقية، محكومة بالإرادة الوطنية، وتنطوي ممارساتها على الديمقراطية وسيادة القانون، عندها يمكن تحويلها إلى أداةٍ من أدوات العملية التحررية، وتطويرها من سلطةٍ تؤدي مهمةً وظيفية في مرحلةٍ انتقالية إلى دولةٍ، بقوة الأمر الواقع، وكل ذلك مرهونٌ ومشروطٌ بكلمة السر لعملية التحرير: الوحدة الوطنية.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.