بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

مقال بعنوان "ارهاصات انتفاضة جديدة ونقطة التحوّل؟"

الأسير كميل أبو حنيش

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

بقلم: كميل أبو حنيش

لا يمكن لأيِ شعبٍ يعيش تحت الاحتلال، أن يسكت طويلًا عّما يُمارس بحقه من جرائم يومية، وتهديد وجودي؛ فالثورة كامنة وممكنة الانفجار في أيةٍ لحظة، وتتناسب أحداثها وتطوراتها طردياً مع ممارسات القوة المعادية، وعلى مدار التاريخ حملت الشعوب في أحشائها ووحداتها إمكانية الثورة، وتملك عبقرية تشكيلها وتطويرها وتصميم معادلتها، وكثير من الثورات كانت أشبه بالمعجزة في ظروفها وإمكانياتها وأدواتها وكيفية ابتداعها لوسائلها، وكثيراً ما كانت تدهش القوى المعادية التي في الغالب، مصابة بعمى بمنهجيتها، وغطرستها ووسائل قوتها مما يحجب أبصارها عن رؤية جنين الثورة وهو ينخلق في رحم الشعب، فهذه القوى وإن امتلكت وسائل متطورة على الصعيد الأمني والعسكري والتكنولوجي والعلمي والبحث، إلا أن الزاوية التي تنظر من خلالها إلى الشعوب، هي زاوية القوة والاحتقار، وارتهانها للأرقام والمعطيات الصماء التي ليس بمقدورها رصد ورسم الصورة الحقيقية لما يجري على الأرض.

كانت الانتفاضة الأولى التي اندلعت في ديسمبر 1987، حدثاً مدهشاً للاحتلال الصهيوني، ولم تتوقع أجهزته الأمنية اندلاعها على هذا النحو. وتوقع أبرز قادتها ضمورها وتلاشيها في غضون أسابيع قليلة.

غير أن الانتفاضة فاجأت الجميع، وتواصلت لسبعِ سنوات، عجز خلالها الاحتلال عن وقفها واخمادها. لقد استحدثت الانتفاضة ديمومتها من عدة عوامل أهمها إرادة الشعب الفلسطيني التي كانت تختزن طاقة نضالية هائلة، فضلاً عن ممارسات الاحتلال العدوانية اليومية. 

ولأن الاحتلال المصاب بغرور القوة واحتقاره لشعبنا، عزا عدم قدرته على توقعها واستجلائها إلى غياب وحدة بحثية في جهاز الشاباك، كما هو عليه الحال في جهازي "أمان" و"الموساد" فسارع لتشكيل دائرة بحثية في جهاز الشاباك، وسّد هذه الثغرة، هو ما ألهم في قادم السنوات، بتطوير القدرات الاستخبارية لجهاز الشاباك، وتطوير قدرة الجهاز على التنبؤ. لذا لم يفاجأ جهاز الشاباك باندلاع الانتفاضة الثانية، حيث توقعت مختلف الأجهزة الأمنية مثل الحدث الكبير، وأعدت نفسها وخططها جيداً بما فيها خطة الاجتياحات لمناطق السلطة، وخطة بناء جدار الفصل العنصري، الأمر الذي مَكنّها من إخمادها بعد سنوات من القتال العنيد.

ومنذ سنوات، تنهمك المؤسسات الأمنية الصهيونية في محاولة استشراف إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة، بل وتتحدث عنها، وتصدر تقاريرها الدولية التي ما فتئت تتوقعها في كلِ عام. بيد أنها تجهل شكلها وأدواتها والآليات التي تنظمها، والصورة التي تظهر بها. فسلسلة الهبات التي انفجرت طوال السنوات الماضية أفزعت الاحتلال، لكنها كانت تحت السيطرة، وكانت سلطات الاحتلال تتعامل مع هذه الهبات بصورة تقليدية وآلية، في طريقة قمعها وإخمادها. لكنها كانت هبات متلاحقة ومترابطة ومتنامية وما فتئت تُشكّل تحدياً حقيقياً للأجهزة الأمنية "الإسرائيلية".

وفي العام الأخير باتت تتنامى عمليات المقاومة في مختلف مناطق الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل، وهو ما ينذر بانفجار وشيك لانتفاضة ثالثة، وما يجري حالياً ما هو إلا إرهاصات لهذه الانتفاضة، حسبما تتوقع الأجهزة الأمنية المعادية.

إن عوامل اندلاع الانتفاضة مرتبطة وكامنة في الممارسات العدوانية الصهيونية على الأرض التي من شأنها أن تخلق مناخاً يسمح ببروز بعض مظاهر المقاومة، التي من الممكن أن تَتحوّل إلى ثورة أو انتفاضة عارمة، أما عن السلطة، فلا يرى فيها الاحتلال أكثر من أداة لحماية أمنه، وكبح أية إمكانية لاندلاع أية انتفاضة، ويسعى بشكلٍ حثيث لافراغها من أي محتوى وطني، وهو ما يساهم في تآكل السلطة من الداخل، وعندما يظهر ما يشي بضعفها أو التلويح بحلها، تتداعى الدوائر الأمنية والسياسية الاحتلالية، لمساعدتها بهدف إبقائها حية، ولكن من دون أي أفقٍ سياسي يسمح لها بالتطور إلى دولة، وهو ما يخالف الطبيعة البشرية وعلم الاجتماع الإنساني. فهذه السلطة، إما أن تتطور إلى دولة، وإما أن تتلاشى وتموت، وكلتا الحالتين، لا تقبلهما دولة الاحتلال. أما إبقاء الوضع الراهن على حاله، في ظل التمدد الاستيطاني على الأرض، والانتهاكات والممارسات العدوانية اليومية، فهو أمر لا يمكن له أن يستمر ومن الطبيعي، أن تنمو وتطور مظاهر المقاومة ضد الاحتلال.

إن ما يقلق الاحتلال هو التنوع في أشكال المقاومة لحجارة، مولوتوف، دهس، طعن، تظاهرات ومسيرات شعبية، عمليات مسلحة في مختلف مناطق الضفة، عمليات مسلحة في مدن دولة الكيان، موجات من التصعيد مع قطاع غزة، إضافةً إلى أن هذه الهجمات باتت تشمل كافة الأراضي الفلسطينية (الضفة، القدس، مناطق 48، قطاع غزة) وهوما يفشل إمكانية توقع شكل الانفجار القادم، ونقطة التحّول لمثل هذا الانفجار.

لقد سعى الاحتلال، طوال السنوات العشرين الماضية إلى فصل الساحات عن بعضها البعض، وضرب البنية التنظيمية للفصائل الفلسطينية في الضفة وإضعافها، وعدم السماح لها بالتقاط أنفاسها، من خلال الاعتقالات والملاحقة والاعدامات والترهيب وإغلاق المؤسسات وتجفيف مصادر التمويل.. الخ.

غير أن ما يؤرق الأجهزة الأمنية الاحتلالية، هو بروز ظواهر جديدة، في عملية مقاومة الاحتلال، وأبرز هذه الظواهر، هو أن الغالبية العظمى من المقاومين، ينتمون لطرازٍ جديد لم تتوقعه هذه الأجهزة، حيث أنهم لا يظهرون على شاشة رادار الأجهزة الأمنية، وكثيرٌ منهم لا ينتمون إلى الفصائل الفلسطينية أو إلى بناها التنظيمية، وليست لديهم "ملفات أمنية" وبعضهم يأتي من صفوف أجهزة الأمن الفلسطينية، وهذه الفئات المقاومة تمتاز بالجرأة والروح التضحوية العالية. وفي ذات الوقت غياب التنظيم وقلة الإمكانيات المادية وغلبة العفوية والارتجال في طرق عملها.

إن المناخ القائم على الأرض، ينذر بتطور هذه الحالة وتناميها، وتعدد أشكال عملها ونشاطها. وبمقدورنا أن نقرأ عوامل قوتها وضعفها.

 

أولًا: عوامل الضعف:

1. ثمة تكرار لذات الأخطاء التي وقعها بها شباب الانتفاضة الثانية ( العلنية، استعراض السلاح، غياب الاحتياطات الأمنية اللازمة، الاستهانة بإمكانيات العدو.. الخ).
2. قوة العدو، وتطور وسائله العسكرية والاختبارية ما يسمح له بمحاصرة وضرب البنى التنظيمية وهي في طور التشكل والبناء.
3. دور الأجهزة الأمنية الفلسطينية في ملاحقة المقاومة ورضوخها لضغوط العدو.
4. لم تصل الحالة الشعبية بعد إلى حالة من التعاطف والتماهي الكامل، والدعم اللازم لهذه الظاهرة.
5. افتقاد الدعم المالي اللازم، وقلة السلاح.
6. افتقاد هذه الظاهرة للتنظيم الحقيقي، وغياب القيادة المركزية.
7. غياب الدعم السياسي والإعلامي والجماهيري اللازم.
8. ضعف الفصائل الوطنية وتهتك بناها التنظيمية.

 

ثانيًا: عوامل القوة:

1. اعتماد هذه الهبة على جيل شبابي جسور وتضحوي ومندفع.
2. تنامي هذه الظاهرة واتساعها التدريجي.
3. التنوع في أشكال المقاومة.
4. الكمون: الانتفاضة كامنة في كل مكان، القرية والمدينة والمخيم وفي أجهزة السلطة، وثمة إمكانية لاندلاعها في أي لحظة.
5. المرونة والتكيف مع الواقع والامكانيات المتاحة.
6. الشمول: تشمل كافة أنحاء الضفة والقدس.
7. المفاجأة والعفوية والخفة في التحرك.

إن نقطة قوة هذه الظاهرة كامنة في ضعفها، وفوضاها وهلاميتها، وافتقادها للبنية التنظيمية التي يسهل ملاحقتها وضربها، فهذه الظاهرة أشبه بالخلايا العنقودية غير المترابطة أو المنظمة، الأمر الذي يصعب على أجهزة الاحتلال الأمنية إمكانية القضاء عليها بسهولة.

إن ما يجري حالياً، ما هو إلا ارهاصات لانتفاضة كبرى لكنها متعسرة الولادة، بحكم الظروف الموضوعية والذاتية التي تمنع تطورها بسرعة، ولأن شروط اندلاعها لم تنضج بعد، ويشق على العدو التنبؤ بشكل وزمان وكيفية اندلاعها.

أما الفصائل الوطنية التي التقطت زمام المبادرة في الانتفاضة الأولىن وسارعت لتشكيل القيادة الوطنية الموحدة، وكذلك انطلاقة حركة حماس من رحم الاخوان المسلمين، مما أعطى الانتفاضة زخماً ثورياً كبيراً وساهم في تطوير أدواتها، وخطابها، وديمومتها لسنوات. فإن هذه الفصائل تقف عاجزة ومتفرجة، وضعيفة إزاء ما يجري أمامها، إما بسبب تهتك بناها التنظيمية بفعل المتلاحقة الأمنية المتواصلة لنشطائها وقادتها من قبل الاحتلال وأجهزة السلطة، وإما بسبب افتقادها للإرادة والرؤية الاستراتيجية الموحدة وانشغالها بمشاكلها وخلافاتها الداخلية، الأمر الذي سمح في نهاية المطاف للظاهرة غير المنظمة وغير المسيسة بالتقدم والتفوق على الفصائل المنظمة.

إن هذه الحالة غير المنظمة، ستفقد العدو صوابه، ولأن أجهزتها لم تعتد على مواجهة هذا الشكل غير الواضح للعيان، لذا سيلجأ إلى سياسة العقاب الجماعي، لأنه في هذه الحالة سيفترض أن كل فلسطيني هو مقاوم مُحتمل، وسنشهد عودته إلى شكل الاعتقالات العشوائية، وتكثيف الحواجز على الطرقات والقتل على الشبهات، واتساع وسائل البطش والتنكيل. ورغم امتلاك العدو لوسائل القوة والاستخبارات المتطورة والتكنولوجيا العالية، إلا أنه عاجزٌ عن التنبؤ بالسلوك الذي يمكن أن تسلكه هذه الظاهرة، وكيفية تطورها واستخدامها لوسائلها الجديدة الإبداعية في العمل المقاوم.

أما نقطة التحّول التي من شأنها أن تسمح بانفجار انتفاضة عارمة، على غرار الانتفاضتين الأولى والثانية، إنما هي مرهونة بالظروف وكيفية تسارعها وتطورها على الأرض. وما المسألة إلا مسألة وقتٍ لا أكثر ولا أقل. 

عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الرفيق الأسير: كميل أبو حنيش