كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من زنزانته في سجن ريمون..

السجن ومحاولات استدخال الهزيمة في وعي الأسير الفلسطيني

Gq3i8.jpeg
المصدر / غزة-السجون-حنظلة

بقلم الأسير:

 كميل أبو حنيش  

1-4-2022

لعل أهم ما يميز المشروع الاستعماري الصهيوني عن بقية المشاريع والأنماط الاستعمارية المعروفة أنه إلى جانب احتلاله للأرض واستهداف الانسان الفلسطيني هو مشروع يستخدم أحدث أشكال التنظيم والأساليب العلمية في محاولة تطويع الانسان الفلسطيني وتدجينه وتحويله إلى أداة نافعة لمشروعه الاستعماريّ بعد أن فشل في إبادة الشعب الفلسطيني، أو فرض التهجير القسري الشامل لهذا الشعب عن أرضه ونفيه من التاريخ والجغرافيا، وبات بقاء هذا المشروع ونجاحه مرتبط أشدّ الارتباط بضرورة إلحاق الهزيمة بالإرادة الفلسطينية الثائرة.

 لعبت السجون الصهيونية دوراً مهماً في هذه العملية فالسجن هو المكان الذي صممه المستعمر الصهيوني لإذلال الشعب الفلسطيني وكسر إرادته وكي وعيه ونسيانه وتحويل المناضل الفلسطيني من نموذج ومثال نضالي وانساني وأخلاقي، إلى حالة إنسانية معطوبة ومفككة، من خلال إفساده وتشويه صورته أمام شعبه.

لقد تمكنت الحركة الأسيرة الفلسطينية ومنذ نهايات ستينيات القرن الماضي من التأسيس لحركة وطنية مناضلة حوّلت ميادين وساحات الأسر الى ميادين وساحات للمواجهة والتحدي والتعبئة الوطنية والثورية وفرضت على السجان حالة منظمة تجابه سياساته وممارساته القمعية واستطاعت أن تؤسس مجتمعاً منظماً يقوم على أسس وركائز ثقافية واجتماعية ووطنية وأخلاقية وأعراف وتقاليد، تنطوي على القيم النضالية وخاضت نضالات طويلة ومتواصلة وتمكنت من تحسين الأوضاع الحياتية والشروط الإنسانية داخل السجون، وبدلًا من أن تكون السجون مكاناً لإجهاض الأحلام الوطنية وقتل الإرادة الثائرة كما أرادها المحتل، تحولت لساحات للتعبئة والتنظيم والتثقيف والتعليم، وإنتاج الكادر الوطني المسلح بوعيٍ ثوريٍّ واجتماعيٍّ وثقافي غير أن هذه الصورة المشرقة تعرضت لانتكاسة كبيرة منذ أوسلو وتعززت هذه الانتكاسة بعد الانقسام الوطني عام 2007 وعكست هذه الأحداث نفسها على الحياة الاعتقالية، إذ تراجعت الحياة الثقافية والتعبوية والتنظيمية لصالح بروز ظواهر سلبية كالشللية والمناطقية، وتفشي الثقافة الاستهلاكية وتقديم المصالح الشخصية على المصالح الوطنية وظهور ما بات يعرف بالممالك وأمراء السجون، وقد نجحت مصلحة السجون، إلى حد ما إلى تكريس حالة الشرذمة والتفكيك في جسم الحركة الأسيرة وضرب التضامن الاعتقالي.

منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 وولوج عشرات آلاف من الأسرى عتبات السجون يتعرض الأسرى لحالة غير مسبوقة من التنكيل والقمع ،فقد رأى الاحتلال بالانتفاضة وشبابها وقادتها فئات خطيرة بعد أن تكبد العدو خسائر كبيرة لم يعهدها طوال عقود من الصراع ، وارتأى الاحتلال بهذه الانتفاضة المسلحة ورجالها نموذجاً ثورياً يشكل خطراً على مشروعه ،فكان المطلوب تقزيم هذه الفئات والانتقام منها وتشويه صورتها وصورة الأسير الفلسطيني بصورة عامة في وعي ووجدان شعبه بحيث يجري التعامل مع الأسرى الفلسطينيين بإجراءات أكثر شدة وتركيزًا وبوسائل حداثية بوصفهم فئات معادية، إذ تسعى السلطات الاحتلالية لتحطيمهم وهزيمة وعيهم وإفراغهم من محتواهم الوطني والنضالي والإنساني.

لقد تطورت وسائل القمع التي تتبعها إدارة مصلحة السجون ضد الأسرى ولم تعد تعتمد على الوسائل القديمة في الاحتجاز والتعذيب والقمع الجسدي وحسب، وإنما أدخلت المزيد من الأساليب الحديثة التي تستهدف أعماق الأسير ووعيه بهدف كسر إرادته وهزيمته من الداخل من خلال تطوير وسائل المراقبة داخل السجن وتشجيع الثقافة الاستهلاكية والانفلات والتسيب وتشجيع اهتمامات أخرى لدى الأسير ترتكز على الشؤون الذاتية الصرفة، كما وتنامت تدخلات استخبارات في السجون في الشؤون الداخلية للأسرى ومحاولات تصنيع قيادات متواطئة مع الإدارة وأجنداتها؛ بغية ضرب وحدة الحركة الأسيرة وفصلها عن قضيتها الوطنية وتشويه صورة الأسرى أمام شعبهم، وتصويرهم أنهم مجرد سجناء ينتشر بينهم السقوط الأمنيّ والأخلاقيّ، وأنهم مجرد سلعات استهلاكية تمثل عبئاً على أهاليهم وشعبهم .

إن الهجمة الصارمة والدقيقة للسجون والإجراءات الأمنية مصممة للسيطرة على الأسير من الداخل والخارج وصولاً إلى السيطرة على الوعي واستلابه وتدميره، الدقة في تصميم السجون "الأسوار، الأبراج، الكاميرات، الألوان، الأسلاك والممرات والأبواب والكلاب البوليسية الخ..." تضفي نوعاً من الهالة والسيطرة التامة، وتترك بصمتها على الحواس وتنعكس بصورة قاسيةٍ على الوعي.

أمّا الإجراءات في الداخل للمراقبة والعدد والتفتيشات والعقوبات والحرمان والقمع الجسديّ وتكريس سياسة الخوف الدائم وحالة اللا استقرار تهدف بدورها الى تدجين الأسير وشلّ ارادته وإشعاره بالعجز التام وبالتالي استدخال الهزيمة إلى أعماقه وصولاً إلى تيئيسه وتدميره، لذا صار يتعين على الأسير الفلسطيني أن يخوض معارك مفتوحة مع إدارة مصلحة السجون ووسائلها القديمة والحديثة وأن يواجه هذه الإجراءات والتصدي لمهامه الوطنية ومسؤولياته في معركة التحرر الوطني ومواجهة كافة وسائل الإفساد ومظاهر الانحطاط الناجمة عن تعثر المشروع الوطني بفعل عوامل مختلفة ،علاوة على مواجهة المحاولات لتحويل السجون إلى إقطاعيات يحكمها "أمراء ومخاتير" متواطئين مع الإدارة ومتساوقين مع مشاريعها.

لقد ترك الانقسام الوطني الذي وقع في أعقاب الأحداث الدامية في غزة عام 2007 تأثيره على السجون، حيث استغلت مصلحة السجون هذه الأحداث وفصلت الأسرى بعضهم عن بعض على أساس فصائليّ ،ومن ثم جرت عملية إعادة توزيع الأقسام وتقسيمها على أساس مناطقيّ وبلديّ وشلليّ على حساب الأساس الوطني والاعتقاليّ، ومنذ ذلك الحين أمعنت الإدارة في هذه السياسة بغية تعزيز الفرقة والانقسام والتشرذم في حياة الأسرى ونضالهم ونجم عن هذه السياسات حالة من الضعف والهشاشة في مواجهة إجراءات الإدارة التي انقضت على حقوق الأسرى ومنجزاتهم، ورغم حالة الفصل القائمة في السجون وحالة التشرذم والانقسام حاولت الحركة الأسيرة النهوض بمهامها ،ففرضت التنظيم الموحد في السجون لدى عدة فصائل: حماس، والشعبية والجهاد أي انتخاب هيئات قيادية وحزبية كردٍ على حالة الشرذمة القائمة، فيما بقي تنظيم فتح يفتقد لمثل هذه الهيئات وتسود في صفوفهم حالة من التفكك والشرذمة والممالك وظاهرة المخاتير، الأمر الذي أدّى الى اصطفاف الحركة الأسيرة بوصف فتح التنظيم الأكبر على الساحة الاعتقالية، اذن الأمر الذي أدى إلى إضعاف الحركة الأسيرة بوصف فتح هي التنظيم الأكبر على الساحة الاعتقالية، إلا أن هذه الحالة المزرية لم تمنع إبقاء التنسيق والتعاون النضالي بين مكونات الحركة الأسيرة ولو بحدودها الدنيا.

إنّ الحالة المزرية التي وصلت اليها الحركة الأسيرة في السنوات العشرة الماضية، مرشحة للمزيد من التفاقم ما لم يجري تداركها، وفي هذا الإطار تتحمل الحركة الأسيرة وفصائل العمل الوطني والإسلامي والمؤسسات الوطنية ذات الصلة المسؤولية عما يجري، الفصائل الوطنية والمؤسسات يتعين عليها المتابعة الجدية لما يجري في ساحات الأسر، وينبغي أن تعمل الفصائل على فصل ومحاسبة العناصر الفاسدة التي تلعب دوراً سلبياً ومتواطئاً إلى حد بعيد مع إدارة السجون، وفضح الممارسات الصهيونية، ونشر الوعي والثقافة الوطنية الاعتقالية ودعم الحركة الأسيرة ومساعدتها في توحيد نفسها وجهودها.

أما الحركة الأسيرة، فتتحمل المسؤولية الأكبر في هذا التراجع، فإنه ينبغي عليها أن تعيد مراجعة ذاتها، وضرورة صياغة برامج وطنية وتنظيمية لإعادة ترميم ما تهتك طوال هذه السنوات، والعودة إلى مربع الوحدة والتلاحم ومجابهة مشاريع مصلحة السجون التي باتت أكثر خطورة عن ذي قبل؛ لأنها تستهدف الوعي والإرادة والثقافة.

 

كميل سعيد أبو حنيش  

من بلدة بيت دجن قضاء نابلس 1975.  

حائز على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة النجاح الوطنية عام 1999، ودرس الماجستير في الشؤون الإسرائيلية من جامعة القدس أبو ديس.

 عام 2019 شارك في انتفاضتين الأولى والثانية، ومعتقل منذ العام 2003، ومحكوم بالسجن المؤبد تسع مرات.

يعد أحد قادة الجبهة الشعبية في السجون وعضو في هيئتها القيادية العليا- قيادة الفرع، ومنذ العام 2009 ترأس مسؤولية منظمة الجبهة الشعبية في السجون بين أعوام 2016-2019.  

كاتب، وله عدة روايات ومؤلفات سياسية ونقدية وله عشرات المقالات والدراسات المنشورة في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية.