كتب الأسير أحمد العارضة إلى رفيقه المحامي حسن عبادي

حسن عبادي في (نيرفانا) حيفا - الأسوار

صورة-أحمد-العارضة-ووالدته-1-620x330.jpg
المصدر / السجون-حنظلة

حين تُقاس المسافة التي يقطعها رسولٌ ما من حيفا إلى مقبرة مسيحية بالمنع المفتوح على كافة الاحتمالات..حين تُقاس هذه المسافة معيارها الكمي، تغدو الطريق قصيرةً بما لا يُقاس مع حقيقة ما يعبئ نيرفانا الوصول إلى البلاد المسوَّرة ولعلَّ امتلاؤها بما يحثُّ عابرها على الوصول هو ما يزيدها مشقة، يشفعها نزرٌ من اللذة، يُملئها افتراض ابتسامة عريضة وخجولة، متناقضة تصدر عن أحد ساكني تلك البلاد المسوَّرة.

لا أحد يعي وقع كلمات معدودة (تمدُّ) يدًا لمن يرسو في ثمال البئر جافًا إلا من حمأ، تكاثر فوق روحه ينسج ابلغ وأعمق حواراته مع رجعُ صوته المرتطم بما يُحسب للجدران من سمةٍ يحمدها كل منسيٍّ إذ تتخذه خليلًا أبديًا، تنجيه من بغية الالتياث والشطط، بينما تُطبِق عليه أضلاعها الباردة، رُبَّ ذاك على سبيل الإبقاء على سلامة عقله، حتى يتسنى له الشعور -جيدًا- بأنه لا يزال أسيرها، والتسليم بأنه لا يقدر على فراقها ما دامت القديم الوحيد الذي يقاسمه الوحدة والليل وكسرة الشعر.
من تعوَّد أو تروَّض على التسليم بكونه لفظٌ خارج اهتمام هذا الكون بعجلته التي تدور بسرعة الضوء، يدرك أن لاشيء يمكنه إضافة المزيد إلى حقبته المليئة بالخذلان والتجاهل وعدم الاكتراث، ما يتقاطع نظريًا على الأقل مع الشعور بالانتهاء...انتهاء لا تليه أيَّة بدايةٍ تذكر.

رُبُّ ذاك ما يجعل من النيرفانا التي يسلكها "حسن عبادي" زاهدًا بجمال حيفا؛ منعتقًا من لذة المكوث بها دربًا يفيضُ بالمشقة إذ يتحسسُّ ما يمكن أن يكون عليه حال الساكنين في "ذاك" الدرك المحموء بأسونة الزمن اللزج، ولعله يتساءل: لماذا يُكنّون أنفسهم بالأحياء الأموات؟ ولماذا يُكنُّون أماكنهم بالمقابر تارة والمربعات تارةً أخرى، ولا يكتفون بتسميتها باسمها معتقلات وكفى؟! أليسو أحياء حقًا؟ وإلا فهل نملك نحن قدرات خارقة أو كرامات تمكننا من التواصل مع الموتى - الأحياء؟ وعليه نكون قد استعدنا زمن المعجزات المفترض!! ليس تأكيد أو نفي ذلك سوى ضرب من العبث بالنسبة لهم، نعم فهم يدركون أن كلَّ ما يصدر عنهم هو "أحلام موتى" وهم ذلك حققوا معجزة أخرى تشي بعوالمهم المنسية والخفية، وتخترق منطق الأسوار، فتخرج أحلامهم سالمة من أي (ضوء) يُفسد عمرها القصير، فالعتمة دفيئة أحلامهم!!

ليست هذه النيرفانا سوى نقطة البداية في زمن المعجزات الذي يبدأ (صاحبها) رحلته ومعجزته معًا، أجل، نحن أمواتٌ أحياء، لا بل أحياء أموات وليس في ذلك ما يخالف المنطق أو حقائق الطبيعة وقوانينها، فطبيعتنا كذا، ومن يمتلك القدرة على إزاحة كل هموم وفروضات الحياة المكتظة والمزدحمة في "حيفا" ويقتحم عالمنا السريّ، ليتحقق من وجود كائنات نادرة كجزيرةٍ مفقودة تكمن منجمٌ بوجودها أو ككنزٍ خرافي محتمل، أز إكسير حياة يُخلِّد شاربه، ويبذل كلُّ ذاك الجهد للتأكد من كفه اليون الذي يفصل الحقيقة عن الخرافة، لا يكون قد استعاد زمن المعجزات العابر، إنما صنع معجزته بنفسه وأخرج الكثيرين من حيَّز الفانتازيا إلى حيَّز الواقع الملموس، تلك ذي معجزته التي تستأهلُ منا على الأقل الاعتراف بأنه صاحب النيرفانا التي تبدأ من حيفا وبحيفا وتنتهي إلى حيفا عودةً إلى نقطة الاكتمال، البدء.

الأسير أحمد عارضة 
من داخل أسوار معتقل ريمون الصحراوي