كتب الأسير محمد الزعنون من زنزانته في سجن ريمون الصحراوي:

كلما توهج وجعي بالألم.. أضاء

IMG_٢٠٢١٠٣١٧_١٠٠٤٢٣.jpg
المصدر / السجون-حنظلة

تمضي الأيام هنا ببطءٍ شديد ليس كما العادة، متكررة بتفاصيلها بثوانيها، ويطلقون عليك كلاب مؤامراتهم لينهشوا إرادتك بأنياب أفكارهم، يصلبونك في القفص بجرمٍ تجهله، ويثبتونك بالقيد فوق حقلٍ من الصبر، يعذبونك لذنوبك السرية التي لا تعرفها أنت ولا يدعون أنك فعلتها لأن وجعك حين توهج بالألم أضاء...

هل يحاسبونني على أنني أخفيت وجعي خلف قناع الابتسامة كي لا أرهم أنجرة نيراني الدفينة، مع أنها كانت تنبعث عبر شقوق عيني وأنفي وبقية منافذ الجمجمة المعلبة بالعذاب...وتمضي الأيام بحملٍ ثقيل وأصبح الصمت هو التعبير الممكن عن الصدق..وصار الموت هو الإزدهار الوحيد المتبقي ولم أمت ولن أموت، صباح الصبر يا رجل الجبل والريح والحقول النضرة، ماذا تفعل في هذا القيد الإسمنتي بعد أن استهلكت العتمة شموعك..مساء الصبر يا رجل التحدي، ماذا جئت تنشد حيث أنت !!

وتمضي الأيام كمشرط جراح قلب في جسدٍ سليم..هنا النقب..تلك الصحراء التي أقسمت أن تحرق بحرارتها دماء أبناءها..وتسلب بصفار رمالها عيون رجالها وتقص بلياليها عزيمة أبطالها..اليوم قررت أن أصارح الحديد بأن الحرارة المنبعثة في قلوب من بداخله قادرة على أن تلين جبروته..تهزمه شر هزيمة وتقهره، لما كسرت قسوته عليهم في أيام الشتاء القارصة..

وتمضي الأيام كخيطٍ رفيع..رفيع تدلى في قعر بئرٍ لا أنا أراه ولا هو قادر على أن ينقذني ولا هو قادر عل أن ينتشلني، تعصف عقلك المتداعي، تحاول في المرة الأولى وأحاول أن أصلب عيني عليه..أعصف ذهني، أهرول يمينًا مرة وشمالًا مرات، ثم أقف حائرًا هامسًا في عقلي لذاتي: لعله خير..كل شيء خير..أراك الآن ورأيتك مرة قبل ثوانٍ وسأراك في كل مرة وفي كل حين، تصبحين على ما تتمنين...صباح الخير يا نوارة كل خير صباح الصبر يا إمرأة الخيار الواحد والفعل الواحد والصوت الواحد.

وتمضي الأيام ولا زالت السكينة هي الفرصة الغائبة عن داخلي، فوضى عارمة تجتاح داخلي في هذا اليوم الغريب الأطوار ولا أعلم ما الذي يحصل..كأن النهار مصمم على أن لا ينتهي، وكأن الليل أقسم يقينًا على أن لا يجيء، ها قد جاء الليل وحمل معه صوتكِ الذي يشبعني شوقًا وحنينًا واغتراب وأحاول كثيرًا ألا أتألم وأمضي قدمًا في خلوتي السرية التي تسوقني إليك، أناجي نفسي وآخذك معي في رحلتي التي لا أعلم متى تنتهي، وما أقسانا على أنفسنا نحول دومًا على أن لا نرثي الماضي ونعيش في أزمات الحاضر ومنشغلون أحيانًا في التفكير في المستقبل.

تمضي الأيام وتأتي نسائم الهواء الباردة بعد حرارة وحزن الدماء في شرايين من أقسموا هذه الأيام التي لا تقتل فينا ما حملتنا إياه الحياة في الخارج...تمضي الأيام وأنا أقسم لذاتي أن أكون الأفضل بين جموع الهياكل البشرية الذين لكثرة ما اصطدمت بهم رمال الصحراء حولتهم لأحافير صخرية من الصعب أن تذوب مع مياه الأمطار..

وتمضي الأيام وما زلت أعاني من قلة التنفس..وأنا الغريق في عالم الكربون يحجبون الهواء النقي عن رئتي ويضخون سمومهم في صدري عبر كنتوناتهم المسرحية...وتمضي الأيام والصمود شعار الوقت يصدح قوتهم فنحن نقاتلهم بالوقت..وأسأل نفسي عن صمود هذا العملاق الذي ينام قبالة عيني..كم من جيل وجيل من السجانين تبدل عليه خلال مكوثه في السجن..وأسأل نفسي عن أي نوع من الأعداء الذي يقيد حرية إنسان لأكثر من ثلاثة عقود وأي ثورة لك تترك أبناءها يغرقون في عالم الظلام..

عذرًا لكم ومتأسف لكم..يا ويحنا ماذا فعلنا بأنفسنا؟..تركنا أرضنا تأكلنا ولم نزرعها لنأكل منها...

 

الأسير محمد الزعنون

سجن ريمون الصحراوي