كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من خلف زنزانته في سجن ريمون الصحراوي

وضوح الرؤى والمواقف في رواية "حين يعمى القلب" للكاتبة وداد البرغوثي

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

بقلم الأسير: كميل أبو حنيش
طالعت حتى الآن ثلاث روايات للكاتبة "وداد البرغوثي"، الأولى حملت العنوان (وجوهٌ أخرى) والرواية الثانية حملت العنوان (تل الحكايا) أما الثالثة فكانت بعنوان (حين يعمى القلب) الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية في طبعتها الأولى من العام 2020م، ومع كل رواية للكاتبة كنتُ ألمس تلك الشفافية العالية والوضوح والإنحياز الكامل للمواقف والقضايا الإنسانية والوطنية.
ووداد المنسجمة مع نفسها وما تحمله من مواقف ومبادئ راسخة، تبدو شبيهةً بنصوصها، وما يميزها هذه المرة في روايتها الجديدة أنها قررت أن تفتح النار وتصرخ بأعلى صوتها بلا أي تحفظ وهي تشير إلى عري الملوك والأمراء والسادة ومرحلتهم، وتفضح بكل شجاعة وجرأة الأقنعة الزائفة التي يتسترون من خلفها.
ففي معرض تقديمها كتبت وداد تقول عن روايتها: "أنها نصٌ فيها من الخيال ما يصل إلى حدود الواقع المدهشة، وفيه من الواقع  ما يلامس خطوط الرواية، وهي ليست رواية يمكن أن يحاكمها الناقدون حسب مدارس النقد، وليست وثيقة قابلة لفحص الصدق من عدمه.."

فالرواية ليست مألوفة بل خارجةً عن المألوف، امتزجت فيها السيرة الذاتية للكاتبة مع الخيال الروائي مع واقعية المشهد الفلسطيني المفتوح كجرح، وما تنطوي عليه المرحلة التاريخية من بطولات وخيانات ومؤامرات، والكثير من تواطؤ الأبناء، فالكاتبة تضع يدها على الجرح وتسلط الضوء على بعضٍ من عيوب معركتنا التحررية، وتلامس أوجاعنا والكثير مما لا نتجرأ بالبوح به حتى لا نمعن في فضيحة ذاتنا الوطنية.
وتستطرد وداد في حديثها عن روايتها :"واقعٌ عاشه الراوي وشهد عليه، هو شهادة على عصر الاستباحة، عصر عمى القلب، كل شيء اُستبيح لأجل المال...التشكيك في كل ما هو ثوري أصبح عاديًا...تطبيع غير الطبيعي في الثقافة والوعي، أصبح تمامًا "مبيدات حشرية لذواكر بشرية" فأصاب قلوبها بالعمى..".
هذا الاستهلال هو إشارة لما تود الكاتبة الإفصاح عنه، مما عايشته شخصيًا وما كانت شاهدة عليه، بهدف الاحتجاج على واقع مرير، فمفتاح الرواية هو قضية الانتماء للوطن وهو يعايش استعمارًا يستهدف الوجود الفلسطيني على الأرض، وهو ما يحتاج إلى نضالٍ دؤوب وتضحيات ونقاء ونزاهة ومصداقية، فالانتماء ليس مجرد تنظير واختبار خلف الشعارات الكبرى، دائمًا هو ممارسة مقترنة بالقيم الثورية والتضحوية، وفي هذه الرواية تسلط الكاتبة الضوء على قضية من أخطر القضايا، وتشير ببنانها إلى ممارسة الكثير من المؤسسات ورموزها ممن يسترزقون على آلام شعبنا وقضيته، ويؤدون أدوارًا لا علاقة لها بالتحرر الوطني أو التنمية أو مقاومة الاحتلال، ويخضعون بشكلٍ كامل لشروط الممولين الأجانب وغاياتهم المشبوهة والمنحازة لصالح الاحتلال الاستعماري، بحيث باتت أنشطة هذه المؤسسات ومعاييرها مقلوبة وباهتة وعقيمة، ومصابة بعمى الألوان أو عماء القلب وهي تلهث وراء مصالحها الذاتية تحت ستار رقيق من الشعارات البراقة.
وتتحرك الراوية وأبطالها في أزمنة وأمكنة مختلفة، وتعيدنا إلى قرية كوبر أو (تشوبر) كما يسميها أهلها، حيث براءة العلاقات ونقائها، وهي البلدة التي أنجبت أبطال الرواية، الذين اختلفت آرائهم، وافترقت دروبهم، وترسم الكاتبة لوحة فسيفسائية، تنطوي على رومانسية وحنين إلى الماضي، ونقاء الأمهات، وانتماء الفلاح لأرضه وارتباطه بها، وزمن الانتفاضة الأولى وثقافتها الوطنية والاجتماعية لتقارنها بمرحلة أوسلو وما تلاها من انحطاط وتحولات وفساد، وبحث عن الذات، ونشوء عدد كبير من المؤسسات التي انتشرت كالفطر تحت مسميات ووظائف مختلفة (طفولة، مرأة، عمال، حقوق إنسان، تنمية...إلخ) وفي غالبها باتت خاضعة لشروط الممول، حيث اتضح مع الوقت أهداف الممولين التي تسعى إلى ثني الفلسطيني عن المقاومة، وصرف أنظاره عن الاحتلال وممارساته والانشغال بمسميات وعناوين ومشاريع لا علاقة لها بالتنمية أو الإصلاح أو التطوير أو إحداث تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ذات جدوى، وهذه المؤسسات باتت معروفة بمؤسسات الـNGOS أو المنظمات غير الحكومية أو مؤسسات المجتمع المدني، واتضح أن لدى الكثير من هذه المؤسسات علاقات مشبوهة ومشاريعها عقيمة، وتُطرح على دورها علامات استفهام كبرى.
ويمثل يزيد وغاردينيا وحازم نموذج الانسلاخ عن النضال الوطني التحرري والانهماك في عالم المؤسسات والممولين، وباتت المؤسسة بالنسبة إليهم هي الغاية، وتحولت القضية وإشكاليات المجتمع إلى وسيلة للاسترزاق والتسول، بعد أن كانت هذه الشخصيات تمثل نماذج نضالية في مرحلة الانتفاضة الأولى قبل أن يطرأ التحول التدريجي على حياتهم، فيما تمثل حياة وشرق وسراج نماذج منتمية ووطنية اضطرتهم ظروفهم للعمل بهذه المؤسسات، غير أن ضمائرهم وحسهم الوطني منعهم من الانزلاق في الوحل، وخاضوا صراعات قاسية مع ذواتهم، قبل أن يحسموا أمرهم ويغادروا وظائفهم في هذه المؤسسات الفاسدة التي تعشَّش فيها ثقافة الانتفاع والانتهازية والتبرير.
وتقول الكاتبة: "الوطن اختلف الآن كثيرًا، فيه كثير من القهر يصلح للكتابة عنه، لكنه لا يصلح للعيش فيه، نعيشه نظريًا ونتحدث عنه للعالم..". (ص 31).
هذا ما يحدث للكثيرين من انسلخوا وجدانيًا عن قضيتهم وباتوا يعانون من فصام في شخصياتهم في محاولاتهم لاستنساخ كل ما يجري في الغرب وإسقاطه على الواقع الفلسطيني متجاهلين حقيقة الاحتلال بوصفه المعيق الأساسي لأية عملية تطور.

وتُشهِّر الكاتبة بهذه المؤسسات: "مؤسسات تنتفخ وتنتفخ، هناك من يدغدغ فيها مواطن الغرور لتنتفخ أكثر، يرش لها العلف الكثير، ولا تقول لا، تبتلع ما يُقدم لها، لم تسأل عن هوية من يعلفها، ولم تسأل عن هدفه وغايته، المهم العلف – الدولارات-، تمويل ما تسميه بالمشاريع أو توهم نفسها أنها مشاريع، ليس مهمًا أي شيطان أو جن أزرق أو أسود يُموِّل هذا المشروع..". (ص63)
هذا هو بيت القصيد، مؤسسات منتفخة، مغرورة بمشاريعها وأدوارها الوهمية، مؤسسات لا تحفل بقيمة وجدوى ما تقدمه من مشاريع، وكل ما يهمها هو التمويل والدولارات "العلف" بصرف النظر عمن يقدم هذا العلف سواء كان أمريكيًا أو متصهينًا أو متعاطفًا مع إسرائيل، فكثير من المؤسسات تلقت تمويلًا لمشاريع تطبيعية أو ضمن برنامج ما يسمى بمكافحة الإرهاب ومشاريع أخرى تسعى لتنويم وعي المجتمع وحرف أنظاره عن ممارسات الاحتلال على الأرض والالتفات إلى قضايا أخرى ليس لها أي أهمية ولا قيمة اجتماعية أو وطنية.
وتضيف الكاتبة: "هناك حمى التمويل، كلمة الفندر :المموِّل" درجت على كل لسان في المؤسسة والمؤسسات الشبيهة، كلمة لها مفعول السحر، كأن رضى الفندر من رضى الله..". (ص63)
فالممول إما أن يكون مؤسسة أمريكية أو أوروبية في الغالب، وهذا الممول يضع شروطًا بموجبها يجري تقييد المشاريع وضبط أهدافها، والمسار المعروف لهذه المشاريع ينتهي في خدمة أجندات ومشاريع سياسية خطيرة.
"كلمة فندر بالمفهوم الشعبي تعني في بعض المناطق ومنها قريتنا تعني - كشف عن عورته-".(ص63)...."كم بدا التقارب بين المعنيين كبيرًا" (ص63)..."فالممولين كشفوا عن عورات مجتمعنا ومؤسساته وجعلوها تدور في فلكه أينما دار" (ص64).
إن هذه المؤسسات تعمل في النور، أما غاياتها الخفية أو بالأحرى الأدوار التي أنيطت بها، بدأ تتكشف مع الوقت، إذ أن الفائدة لا يكاد يلمسها المواطن، وإنما الفائدة يُجنيها القائمين على هذه المؤسسات التي استخدم بعضها كحصان طروادة لغزو المجتمع والتجسس عليه بطرق أكثر خبثًا.

 "يريدنا السيد المدير أ نتحول إلى جواسيس".(ص74) 
هكذا أعلنت شرق باحتجاجٍ بالغ، إذًا ثمة أهداف للممولين، وثمة مدراء وعاملين بهذه المؤسسات ممن تساوقوا معهم، وقبلوا قواعد اللعبة مهما كانت مذلة وخطيرة، بأن حوَّلوا مؤسساتهم لمراكز مخابراتية تعدُّ الأبحاث والتقارير وتنقل المعلومات بصورة علنية.
وتسخر الكاتبة من التسوية ومسمياتها وإفرازاتها كالبرلمان أو المجلس التشريعي الذي يشكل حماية ويشرعن عمل مثل هذه المؤسسات ويمثل جزءًا من المرحلة الفاسدة: "لم أجد للبرلمان قبةً لا من الداخل ولا من الخارج، قلت لنفسي: حتى لو وجدت فيه بحجم قبة الصخرة، لن يكون هذا دليل قداسة، ما دام هناك بين المجتمعين تحتها لصوص..". (ص104)

والكاتبة لا تفضح سرًا، بعد انتشار العديد من التقارير التي تتحدث عن فساد رموز كبيرة في السلطة بما فيها بعض نواب البرلمان والتسابق على الامتيازات وسرقة المال العام وتورط البعض منهم في قضايا كبيرة كالأسمنت الذي جرى تسريبه لشركات إسرائيلية تعمل في الاستيطان وبناء الجدار العنصري، وبعد أن تحولت السلطة بمؤسساتها إلى الـNGOS  الكبرى، وتحت رعايتها وأمام عينها تجري عملية الإفساد الممنهج للمجتمع وتغض طرفها عن أداء وعمل المؤسسات الممولة أجنبيًا، وكل هذا يجري في الوقت الذي تتواصل فيه ممارسات الاحتلال على الأرض ويجري تجويع الشعب الفلسطيني وانتهاك كرامته.
وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية، واكتشاف مدى عقم التسوية وزيفها، بعد ارتكاب إٍسرائيل المجازر والدمار وتخريب البنى التحتية، حاولت بعض المؤسسات ركوب موجة الإصلاح وإعادة الإعمار، لكن مجمل مشاريعها كانت باهتة وخضعت هذه المؤسسات على نحوٍ أكثر لشروط الممولين.
ويحسم يزيد النقاش في أحدى اجتماعات المؤسسة لدى مطالبة بعض العاملين أن يجري تقديم مشاريع لإعمار مخيم جنين، بوصفه مشروعًا يلامس هموم الناس بصورة مباشرة فيقول: "الأمور يجب أن تعالج بروية وعقلانية، العواطف تساعدنا في هذا الصدد، مؤسستنا ليست قائمة على العواطف..". (ص207).
فيزيد يعي تمامًا دور مؤسسته ومهمتها الحقيقية، وإن مثل هكذا عناوين من شأنها أن تثير غضب الممولين، فهذه المؤسسات جرى تحديد دورها سلفًا، وهذا الدور يتمثل في تخدير المجتمع وتطويعه وتزييف وعيه وتشجيعه على التطبيع مع قاتله والقبول بالأمر الواقع. 
وتشير الكاتبة إلى وثيقة (نبذ الإرهاب) كإحدى الدلائل على تورط الممولين في التواطؤ مع الاحتلال وتحميل الضحية مسؤولية العنف، بحيث كشفت هذه الوثيقة عن ضعف هذه المؤسسات وارتهانها لشروط الممولين السياسية مقابل حفنة من الدولارات، صار يتعين عليها التجرد من أية رسالة وطنية وجعلها تحجم عن إدانة أو نقد ممارسات المحتل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فعلى هذه المؤسسات أن تتحدث وتنشط في مجال مكافحة العنف ضد المرأة أو الطفل أو استغلال العامل، ولكن من غير المسموح لها ربط هذا العنف والاستغلال بالاحتلال، وإذا حدث ذلك، فإنه يعدّ تسييسًا يرفضه الممولين: "التسييس هي الحجة التاريخية لتبرير محاولاتهم المستميتة لتشويه وطنيتنا ومبادئنا وتسفيه قضايانا..". (ص ٢٣٣)
وما هو المطلوب منا في هذه الحالة: "أن نُذبح ونُقبِّل يد من يذبحنا حتى ترضى عنا الشرعية الدولية.." (ص ٤٩)
وتصف الكاتبة الذين انساقوا مع مشروع الممولين، وانحدروا إلى الدرك الأسفل في سبيل مصالحهم الذاتية، وتواطئوا مع هذه المشاريع المشبوهة بعميان القلوب: "حين يعمى القلب تتغير الرؤية، ويُشرّع ما كان مستحيلًا، ما كان محرمًا شرعًا يصبح محللًا..". (ص ٢٤٣)
كانت الخيانة والعمالة، والتواطؤ  مع الاحتلال من أشدّ المحرمات قبل توقيع اتفاقيات أوسلو، وما أن جرى التوقيع على الاتفاق ونشوء السلطة حتى بات كل شيء مباحًا ويجري تغليفه بقشرة من المبررات السطحية، وظهرت مئات المؤسسات التي يمولها الغرب لصالح أجندات تخدم مشاريع الدول الممولة، وتصب في النهاية في صالح إسرائيل فمراكز البحوث والدراسات ومؤسسات حقوقية وأخرى تعني بالمرأة والطفولة والتنمية وعناوين مختلفة باتت تلعب وظيفة تخريبية ولا تصب في مصلحة معركة التحرر الوطني، وازدهر التطبيع وشاركت فيه عشرات المؤسسات وروادها قبل أن تأتي الانتفاضة الثانية وتكشف عن وحشية الاحتلال وزيف ونفاق ما يسمى باليسار الإسرائيلي، ثم تعود وتنتعش هذه المؤسسات ومشاريعها بعد توقف الانتفاضة.
وتختتم الكاتبة روايتها بالقول: "طوبى لمن بقيت قلوبهم مبصرة ومن رحلوا وقلوبهم تتمسك بآخر بصيص من ضوء الحقيقة..". (ص٢٤٣)
إن رسالة الرواية وكاتبتها تنطوي على وضوح الرؤى  والمواقف في الانحياز الكامل للوطن وقضايا المجتمع والتشكيك في كل ما من شأنه أن يحرف البوصلة عن هذا الانتماء، فهي تشجب وتفضح وتعري أولئك الذين انزلقوا وتواطئوا في سبيل مصالحهم الشخصية وتمجد أولئك الذين لم ينحرفوا وظلوا صاعدين ولم تغويهم الامتيازات والدولارات.
وفي هذا السياق يتعين الإشارة إلى أن الرواية لم تضع كافة المؤسسات الغير حكومية في سلة واحدة، فقد ميزت بين المؤسسات التي تلعب دورًا وطنيًا ومسؤولًا ومقاومًا وترفض التمويل الأجنبي المشروط، وبين المؤسسات التي تواطأت عن سبق إصرار ومعرفة ووعي بخطورة سلوكها ومشاريعها، وهذه المؤسسات هي التي قصدتها الرواية.
لقد كانت وداد البرغوثي جريئة في فضح هذه المؤسسات ونحن نضم صوتنا إلى صوت الكاتبة ورسالتها في هذه الرواية في المطالبة بإعادة النظر في الدور المشبوه الذي تلعبه العديد من هذه المؤسسات التي تتاجر في القضايا الوطنية وتسترزق على حسابات عذابات وهموم شعبنا، وما أنشطتها وفعالياتها سوى فعاليات لا تسمن ولا تغني من جوع، وليس لها أي تأثير من شأنه أن يساهم في العملية التحررية الوطنية ولا في البناء المجتمعي أو التنمية، والمستفيد من هذه المشاريع لا يتصدى القائمين عليها، وكذلك الدول الممولة وأخيرًا إسرائيل التي تشكل لها أنشطة هذه المؤسسات تاريخًا صافيًا من دون أن تدفع أي تكلفة.