كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من خلف زنزانته في سجن ريمون الصحراوي

وداعًا صفقة القرن

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

أثبتت إدارة "ترامب" فشلًا ذريعًا في إدارة عدد من الملفات الداخلية والخارجية، ولم تفلح في فرض تسوية مذلة على الفلسطينيين من خلال الخطة التي عرفت بـ "صفقة القرن"، وقد قلنا أكثر من مرة أن هذه الخطة هي إسرائيلية جرى إلباسها ثوبًا أمريكيًا، وبعبارة أدق هذه الخطة هي خطة نتنياهو وتصوره للحل النهائي مع الفلسطينيين وقدمت لترامب الذي تبناها بالكامل كما هي وبدون أية لمسات أمريكية.
لقد جاهر نتنياهو بهذا التصور الوراد حرفيًا في خطة صفقة القرن منذ أكثر من ربع قرن، وأعاد التأكيد مرارًا عليه في السنوات العشر الماضية. غير أن ما كان ينتظره نتنياهو لفرض هذه الرؤية هو إدارة جمهورية ورئيس كدونالد ترامب إلى جانب بعض الأنظمة العربية التي تبتغي مثل هذه الرؤية بهدف الضغط على الفلسطينيين وإجبارهم على الإذعان لهذا الحل. فقد اتضح أن الخطة جرة تقديمها لإدارة ترامب وبدأت في الكواليس عملية تنسيقها مع عدد من الأنظمة الخليجية وشملت الخطة إضعاف الفلسطينيين جميعًا والتنصل من الاتفاق النووي مع إيران وفرض عقوبات مشددة  عليها لإصفاف محور المقاومة كما وتضمنت أحد فصولها تنصيب محمد بن سلمان وليًا للعهد في السعودية واتضح فيما بعد أن هذه الشخصية تمثل كنزًا مهمًا واستراتيجيًا بالنسبة لإسرائيل، لما قدمه لها من خدمات سياسية  لم تحظى بها من قبل مع أي زعيم عربي آخر، وستكشف الأيام عن خبايا وأسرار العلاقات الإسرائيلية مع بن سلمان وغيرها من قادة الأنظمة العربية المتواطئة مع إسرائيل.
لقد كانت حسابات نتنياهو في فرض هذه الخطة ترتكز على أربعة ركائز: الوضع العربي البائس، الحالة الفلسطينية المتردية، إدارة جمهورية يرأسها ترامب، أنظمة عربية ثرية تتبنى هذه الخطة أما العامل الحاسم يتمثل بحكومة إسرائيلية يمينية وقوية ومستقرة يرأسها نتنياهو بالطبع.
راهن نتنياهو على توفر مثل هذه الشروط، من شأنه أن يضع الفلسطينيين في الزاوية، ويجبرهم في نهاية المطاف على قبول الخطة التي تتلخص بتصفية كافة القضايا الكبرى: حق العودة، القدس، المستوطنات، الدولة..إلخ،  ومنح الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وبهذا يجري الإعلان عن انتهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتتويج إسرائيل كحاكمة للمنطقة، بعد أن تجري عملية فرض التطبيع القسري بينها وبين دول المنطقة العربية والإسلامية قاطبةً.
بدأت الخطة تتحرك بتعيين بن سلمان وليًا للعهد في السعودية وسلسلة الإجراءات الأمريكية التي كان من شأنها أن تخلق نوعًا من الصدمة لدى الفلسطينيين، وتربكهم وتؤدي إلى انقسامهم، ومن بين هذه الإجراءات والقرارات: نقل السفارة الأمريكية للقدس والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، الاعتراف بشرعية الاستيطان، إلغاء حق العودة ووقف تمويل الأونروا، قطع المساعدات الملية عن السلطة وإغلاق مكاتب المنظمة في واشنطن..إلخ، وغيرها من قرارات تهدف للضغط على الفلسطينيين وابتزازهم وتجنيد الأنظمة العربية للضغط عليهم والتهديد بقطع المساعدات عنهم ووصلت هذه الخطة ذروتها بإجبار أربعة أنظمة عربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، حيث لعب بن سلمان إلى جانب بن زايد دورًا مهمًا في هذه العملية.
ارتكزت هذه الخطة على نظرية نتنياهو "سلام الردع" أو فرض السلام بالقوة، ومع أن إسرائيل حصدت بعض النتائج في إطار العلان عن هذه الخطة، وشكَّل التحالف الثلاثي: الإسرائيلي – الأمريكي – بعض الأنظمة الخليجية العربية، عوامل محفزة لإخراج الخطة إلى حيز التنفيذ.
غير أن هذه الصفقة فشلت، وأخفق التحالف الثلاثي في فرضها كتسوية نهائية للصراع، وتعود أسباب هذا الإخفاق إلى: 
1-    مثَّل العامل الفلسطيني العنصر الحاسم في إفشال هذه الخطة بعد رفضها والتنديد من قبل الشعب الفلسطيني، (المنظمة، السلطة، الفصائل الوطنية والإسلامية..ألخ) حيث توحد الموقف الفلسطيني رغم حالة الانقسام السائدة على إفشال الخطة لما تمثله من مخاطر وجودية على مستقبل الشعب الفلسطيني، وقد كان لهذا الموقف الصلب في رفض الصفقة أثره البالغ في إحباط المشروع، وإرباك التحالف الثلاثي.
2-    ونتيجةً للموقف الفلسطيني الرافض، لم تتحمس أي من الأنظمة العربية لتبني المشروع، على الأقل بصورة علنية، كما أن الدول الكبرى أجمعت على رفض الصفقة لما فيها الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والدول الوازنة في العالم وهو ما عطَّل من إمكانية انطلاقها.
3-    أما الأنظمة العربية التي كانت تدفع باتجاه تبني الصفقة، كالسعودية والإمارات، فلم تكن في موقع يسمح لها بالضغط، وبدت أنظمة متواطئة وضعيفة، لا سيما بن سلمان بعد قضية "خاشقجي" والملابسات المثارة بشأنه داخل الأسرى السعودية الحاكمة فضلًا عن تورط هذه الأنظمة بحرب اليمن، والإنضواء العلني تحت لواء التحالف الأمريكي الإسرائيلي.
4-    كما أن شخصية ترامب المثيرة للجدل، والأزمات التي تسببت بها إدارته مع العالم وفي الداخل الأمريكي والمنظمات الدولية، أفقدت هذا الرئيس الاحترام والتقدير الذي ينبغي أن يتمتع به صاحب أي مشروع سياسي، وبدا أشبه بالبلطجي العديم الأخلاق والشرف والثقة، فضلًا عن الانقسامات الدائمة والاستقالات في صفوف إدارته لم تمكنه من الإمساك بزمام الأمور، ولم يحظى بالتأييد الكافي لترجمة هذا المشروع من جانب البيروقراطية الأمريكية لا سيما وزارة الخارجية التي لم تتحمس لتوجهات الوزير وأركان الإدارة باستثناء بعض الدوائر اليمينية الموالية لترامب، لم تجد هذه الخطة أي صدىً في الأوساط السياسية والإعلامية كالحزب الديمقراطي وبعض قيادات الحزب الجمهوري، وانشغلت الولايات المتحدة ومعها العالم بأزمة تفشي الكورونا في العام الأخير، الأمر الذي فاقم من أزمة الإدارة الأمريكية.
5-    أما فشل الصفقة من الناحية الإسرائيلية، فيعود لأزمة الحكم المتصاعدة في إسرائيل والاعتراض على حكم نتنياهو بسبب ملفات الفساد المنسوبة إلي، فضلًا عن خلافات شخصية وطموحات الأحزاب الإسرائيلية في الحكم، حيث شهدت إسرائيل في الأعوام الثلاثة الأخيرة أزمة سياسية غير مسبوقة أفضت حتى الآن لتنظيم أربعة انتخابات خلال عامين، وهو ما عطل من إمكانية انطلاق أية خطة سياسية ومع أن مختلف الأحزاب الصهيونية تجمع على ما تضمنته صفقة القرن إلا أن هذه الأحزاب، ومن ضمنها بعض الأحزاب اليمينية، لم تدعم نتنياهو لأسباب كيدية، كما أن ترامب بدا حليفًا لنتنياهو وليس لإسرائيل، إضافة إلى معارضة الصفقة من أحزاب وقوى يمينية لإنها ترى فيها أنها تمنح الفلسطينيين "أكثر من اللازم" كما خرجت بعض الأوساط بصورة علنية ورفضت الصفقة كرئيس الوزراء الأسبق "إيهود أولمرت" وغيره من شخصيات.

غير أن العامل الفلسطيني كان أهم هذه العوامل في إفشال صفقة القرن وإسقاطها، ولو أظهر الطرف الفلسطيني أي ضعف أو مرونة أو انقسام، لكان من الممكن أن تذهب الأمور إلى مسارٍ مختلف، فقد أظهر الفلسطينيون موقفًا قويًا وحاسمًا وحازمًا في رفض هذا المشروع الخطير، وكانوا رغم حالة ضعفهم وانقسامهم أقوى من أن يفرض عليهم مثل هكذا تسوية، وهي نقطة تستدعي التأمل والبناء عليها.

كان مشروع صفقة القرن يكشف عن حالة الانحطاط والعنجهية لدى الدول والأنظمة والشخصيات التي لا ترى بمنطق القوة والمال والابتزاز حجر الزاوية في العمل السياسي وأنه بالإمكان إرغام الشعوب على بيع أوطانها وقضاياها بالمال والخضوع لمنطق القوة، لكن شعبنا أفشل أخطر مشروع سياسي كان من الممكن أن يهدد مصيره ووجوده ومستقبل أجياله، وحرم نتنياهو من أهم إنجاز كان يحلم بتجسيده: تصفية القضية الفلسطينية.

أما إدارة بايدن فإنها لن تتبنى هذه الخطة نهائيًا، وستسارع لطي حقبة ترامب وما تركه من ميراثٍ سيئ داخل الولايات المتحدة وفي العالم أجمع. وسيجري دفن هذه الخطة بهدوء ولن يعاود أح من الأطراف السابقة الحديث عنها. لكن هذا لا يعني أن الإدارة الجديدة ستطرح مشروعًا سياسيًا أفضل من صفقة القرن، ولا يعني أنها ستتنصل مما خلفه هذا المشروع من آثار (السفارة في القدس، التطبيع الإسرائيلي مع الأنظمة العربية..إلخ) لكن هذه الإدارة ستعود إلى إدارة أزمة الصراع العربي- الإسرائيلي كما دأبت عليه الإدارات السابقة.
أما نحن الفلسطينيون فيتعين علينا عدم الاكتفاء بالتهليل لإسقاط صفقة القرن، وإنما يجب المباشرة في رسم استراتيجية وطنية كفاحية موحدة من شأنها أن تحاصر الموقف الإسرائيلي، وتُعجِّل من هزيمة الاحتلال، واستعادة الحقوق الوطنية، وإنجاز الدولة الفلسطينية المستقلة.

الأسير كميل أبو حنيش 

سجن ريمون الصحراوي