كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من زنزانته في سجن ريمون

سياسة الرفسات

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

رحل ترامب عن البيت الأبيص وربما سيختفي نهائيًا عن عالم السياسة، طُرد شر طردةٍ، لأنه أراد أن ينتزع عن وجه الإمبراطورية قناعها الجميل لتبدو على حقيقتها، كان يبدو طبيعيًا ولم يحاول إرتداء أي قناع كما يفعل الساسة، وأراد أن يقول كلمة لكل من يهمه الأمر: الشيطان يربح دائمًا لأنه يعبر عن الطبيعية الحقيقية للبشر، ربما كان يعوزه الذكاء اللازم كي يدرك أن الشيطان أيضًا يُجيد ارتداء الأقنعة، وبلاغة اللسان.

كان يتعين عليه أن يتصرف بما يليق بمنتديات السادة الكبار وأعراف المحافل ولياقة الجلوس على عرش البيت الأبيض.

فمن غير اللائق على الجالس فوق العرش أن يرفس كالبغال، فسيد البيت الأبيض لأربع سنوات خلت، أراد أن يخلع على عالم السياسة وعلى تقاليد العرش، بعضًا من الخصائص الحيوانية وإطلاق الغرائز بلا أي حياء...فأحبهُ جمهورٌ واسع تشبَّع برائحة الروث الثقافي والإرتواء من مياه السياسة الآسنة، كما أحبه قطيعٌ من الرؤساء والملوك والأمراء ممن رأوا فيه صورتهم ومعلمهم الأعظم.

علَّم جمهور مريديه أن القوة والأنانية والاستغلال هي كلُّ شيء في عالم السياسة من دون أية فزلكات أو تعبيرات دبلوماسية.

قال لهم: "علينا أن نبدو على طبيعتنا كمفترسين ونحن نحيا في عالمٍ تحكمه شريعة الغاب ولا يصلح إلا للأقوياء، أما الفقراء والضعفاء فهم المسؤولين عن فقرهم وقلة حيلتهم وثمة بشرٌ زائدون عن الحاجة، ولا يحتمل الكوكب أن يعيش على سطحه 7 مليارات من البشر، أما الأمم والشعوب خارج نطاق الولايات المتحدة فهي تنتمي لجماعات وسلالات قديمة بائسة ومتخلفة، ينبغي أن تؤول ثرواتها لأمريكا ولا بأس في إهانة قادتها وابتزازهم وإرغامهم على بيع أوطانهم ومستقبل شعوبهم، "أمريكا أولًا" تعني أنا ترامب أولًا حتى أضمن لكم انقلابًا جذريًا يشمل كل شيء في العالم".

ابتسم الخبثاء من السادة الخصوم لنهجه وشريعته البهيمية وتساؤلوا بهمس: لماذا اخترع الإنسان اللغة؟ ألم يخترعها ليختبئ خلف ظلال الكلمات؟ لا سياسة بدون خداع عبر بلاغة المفردات، لقد دنَّست معبدنا ونزعت القشور عن شعاراتنا المطلقةالتي نتباهى بها، كان بوسعك أن تستخدم موقع التويتر للتغريد حسب بيد أنك أسمعت العالم كل أصوات الحيوانات والطيور المنكرة إلا التغريد، لو كنت أذكى قليلًا لاستعملت منبرك بشيء من اللباقة، لماذا لم تكذب كما كذب الآخرين؟

لكنه أصرَّ على نهجه ولم يلتفت لهمسات دهاقنة السياسة، لم يختبئ وراء اللغة ومارس سياسة الرفس التي لا تليق بالإمبراطورية، حصد الفشل في السباق، ليس لأنه الأسوء بل لأنه كشف عن زيف الدولة، وأطاح بغرور العمالقة، لقد أراد أن ينصب نفسه إلهًا للابتزاز والقوة والغرائز، لكن السادة أبغضوه بقوة، بعضهم حسدًا، والبعض الآخر لأنه كشف عن عُري الملوك، تعرى تمامًا من أي ثياب تعري عورته، ولم يكن بحاجةٍ لمجاملات ولم ينتظر أن يلفت انتباهه أحد لهذا العري، بل قال: أنا عارٍ تمامًا ومصرٌ على هذا التعرى.

قالوا له: لماذا لا تتعلم ممن سبقوك في الحكم؟ بعضهم زعم بأن الله قد كلمه في ردهات البيت الأبيض، وبعضهم إدَّعى بأن روح النبي موسى قد حلَّت به، وبعضهم قال: تكلموا بهدوء واحملوا عصىً غليظة، وبعضهم شدد على استخدام قبضةٍ حديدية بقفازٍ مخملي، لكنه لم يلتفت، فضَّل أن يكون الإله ذاته، وأن يتحدث بصوتٍ صاخب ويحمل عصىً من حديد، يُحوِّلها إلى أفعى ليبتلع العالم، أراد أن يكون مختلفًا فمسح كل مساحيق التجميل عن وجه الإمبراطورية القبيح، وعندما جاء السباق خسر المعركة ولم يعترف بالخسارة، وأصرّ كطفلٍ مشاكسٍ على الفوز لعلهم يمنحوه ثانيةً لعبة السياسة، قال لهم: لم أعتد في حياتي الخسارة، منذ الطفولة والصراع بين الإخوة في العائلة والغش المدرسي، في التجارة والنساء والسياسة.. كلها شاهدة على فوزي في كل شيء.

لكنهم ضحكوا من جنونه وحماقاته، فأصرّ أن يهدم المعبد فوق رأس الجميع وأن يحرق روما، ذهب مع رعاعه ليلقوا الحجارة ويحرقوا المعبد، عندها أدركوا أنه تجاوز كل الخطوط الحمراء.

 زجروه إذ هددوه بالعقاب وأنه لن يلعب معهم من جديد، خبط قدمه في الأرض غاضبًا عاد وإتكفأ انتظارًا ليومه الأخير. 

 

انتهى عهده وحل محله رجلًا آخر، أكثر ذكاءّ وضحكة وابتسامًا ليعيد المساحيق لوجه الامبراطورية، لن يقول كما سلفه "أمريكا أولًا" بل سيختفي خلف ستار كشف عن دخان الكمامات المنمقة، سيقول لنا: "أمريكا ستعيد الاستقرار والتفاهم مع العالم وسيعيد اجترار ذات المفردات: الحرية، الديمقراطية، السلام العالمي، ويعيد توزيع الفتات على بعض الدول الفقيرة، سيتكلم بهدوء عبر التويتر، ولن يستخدم سياسة الرصات لكنه سيبقى حاملًا للعالم عصىً غليظة.

وستبقى سفينة أمريكا وسفينة الموت والاستعباد مبحرة بهيبتها الأسطورية في عرض البحر، ووحدها شعوب الأرض المستضعفة تدرك أن المشكلة ليست في ربَّان السفينة، إنما المشكلة تكمن في السفينة ذاتها.