الرفيق الأسير كميل ابو حنيش يكتب من قلب زنزانته مقال بعنوان

الاستعصاء السياسي في تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة

لم يسبق للدولة العبرية أن مرت بأزمة سياسية على غرار الأزمة التي تشهدها هذه الأيام، في ضوء اخفاق الطبقة السياسية وأحزابها المختلفة في تشكيل الحكومة بعد اجراء الانتخابات لمرتين واحتمالية اجرائها للمرة الثالثة في غضون أقل من عام، الأمر الذي قد يُدشن عهداً جديداً لأزمة سياسية غير مألوفة، وعنوانها عدم الاستقرار في تشكيل الحكومات القادمة التي تتشكل بصعوبة ولا تلبث أن تتهاوى وتسقط، فيجري الذهاب الى انتخابات مُبكرة، وهو ما يعكس أزمة بنيوية ليس في النظام السياسي والحزبي الإسرائيلي فحسب، وانما في بُنية المجتمع الاستيطاني الصهيوني وتناقُضاته العميقة.

بالواقع فإن العقد الأخير الذي شهد حكم نتنياهو وائتلافه اليميني للدولة العبري في ثلاث حكومات مُتتالية يُعد مرحلة مفصلية في تاريخ الدولة العبرية، وينطوي على أزمات مُركبة فاقمها بقاء نتنياهو ذاته على رأس الحكومة طوال هذه المُدة التي لم تعرفها إسرائيل منذ عقود طويلة، فضلاً عن ما يُنسب إليه من تورط في ملفات فساد كبيرة من شأنها أن تسقطه وتسقط ائتلافه الحكومي، وهو ما يجعل نتنياهو وائتلافه يتشبث بالحكم ويُصارع من أجل البقاء مُتحدياً المُؤسسات التشريعية والقضائية والأعراف السائدة في مثل هكذا ظروف ومُلابسات.

إن أحد أوجه هذه الأزمة يرتبط بهيمنة نتنياهو وحزبه وائتلافه على الحكومة في إسرائيل، ودعيه الحثيث لإضعاف وتحجيم الأحزاب والنُخب السياسية التقليدية لضمان هيمنته الطويلة على الحُكم ومُحاولته استنساخ اللحظة السياسية الأولى بإنشاء دولة الكيان التي مثلها في ذلك الحين "دافيد بن غوريون" وحزبه بالبقاء سنوات طويلة في الحكم وهذا خيار غير وارد في الدولة العبرية ومجتمعها وطبقتها ونُخبتها السياسية الحديثة.

وفي استعراض سريع للحكومات الإسرائيلية منذ العام 1948 فإن المرحلة الـ"بنغوريونية" هي وحدها التي شهدت استقرار حكم الحزب ورئاسة الحكومة لفترات طويلة، حيث استمر "بن غوريون" على رأس حزبه في تشكيل حكومات منذ العام 1948 وحتى العام 1963 وهو عام اعتزاله الحياة السياسية، وتخلل هذه المرحلة ترؤس "موشيه شاريت" للحكومة لفترات قصيرة وما عداها فإن "بن غوريون" يُعد رئيساً للحكومة الأكثر بقاءً في سُدة الحكم في تاريخ تشكيل الحكومات الإسرائيلية، فيما بقي حزب  العمل وحُلفائه في السلطة قرابة 30 عاماً بشكل متواصل منذ العام 1948 وحتى العام 1977 الذي يُوصف بعام الانقلاب، حيث ترأس الحكومة لأول مرة رئيس حكومة من حزب الليكود "مناحيم بيغِن" ومنذ ذلك الحين لم تشهد إسرائيل بقاءً لرئيس حكومة لأكثر من دورة أو دورتين.

ومنذ العام 1977 تعاقبت على الحُكم في إسرائيل حكومات ورؤساء حكومات وائتلافات مختلفة، ولم تنتظم حكومة أو رئيسها لأكثر من عقد إلا في حالة نتنياهو فـ "مناحيم بيغن" تبوأ رئاسة الحكومة لدورة ونصف قبل اعتزاله الحياة السياسية عام 1983، ويجري تشكيل حكومة وحدة وطنية من حزب العمل وتداول رئاسة الحكومة بين "شامير" و"بيريس" بين أعوام 1984 و1988 ومن ثم فوز الليكود ومرشحه "شامير" بانتخابات عام 1988 وتشكيل حكومة وحدة مع حزب العمل تخللها أزمات سياسية استمرت حتى عام 1992، حيث فاز حزب العمل ومرشحه "إسحاق رابين" في انتخابات عام 1992 ونجاحه في تشكيل حكومة حتى اغتياله عام 1995، ويعود الحكم لليكود بزعامة نتنياهو عام 1996 ثم يعود الحكم للعمل بزعامة "باراك" عام 1999، ثم عاد الحكم لليكود بزعامة "شارون" عام 2001 الذي استمر بالحكم حتى أواخر العام 2005، وانشق عن الليكود ليُشكل حزب "كاديما"  الذي تولاه "إيهود أولمرت" تسيبي ليفني" وفازا بالانتخابات وتشكيل الحكومة منذ العام 2006 وحتى العام 2009 ثم تعود السلطة لليكود بزعامة نتنياهو منذ العام 2009 وحتى اليوم.

ففي هذا العقد من حكم نتنياهو لإسرائيل جرت تطورات وتحولات جذرية في بُنية الاقتصاد والمُجتمع، وحاول نتنياهو وائتلافه الحكومي البقاء أطول مُدة في الحُكم واستنساخ الزمن السياسي الـ"بنغوريوني" وهو أمرٌ لم يعُد يحتمله المُجتمع والطبقة السياسية الإسرائيلية في ضوء التغيرات والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المُتسارعة في الدولة العبرية، وفوق كل ذلك طبيعة نتنياهو ذاته كشخصية سياسية تتشبث بالبقاء السياسي بأي ثمن، رغم ما يُحيط بها من مُلابسات وقضايا فساد كبيرة، ويُمكن تلخيص الموقف المُتشدد وراء رفض ودور نتنياهو رئاسة الحكومة من جانب الأحزاب السياسية الأٌخرى من خارج الائتلاف اليميني للأسباب التالية: -

  1. استئثار نتنياهو وحزبه ومعسكر اليمين في السلطة والإصرار على التشبُث بالحُكم والهيمنة على مؤسسات الدولة وتطويعها لإرادة نتنياهو وحزبه وائتلافه والسعي لإضعاف وتحجيم القوى والأحزاب السياسية الأُخرى، وهو ما أفضى بتضرر قطاعات ونُخب سياسية كبيرة وقاد لاستنفارها وتحالفها للحفاظ على مصالحها واصرارها على انهاء حُكم نتنياهو وعدم اتاحة الفرصة أمامه لرئاسة الحكومة من جديد.
  2. سعى نتنياهو طوال العقد الأخير إلى شخصنة الدولة واختزاها بشخصيته والتصرف بها كإقطاعية خاصة به وبإفراد اسرته الذين باتوا يلعبون دوراً مهماً في الحكم، لاسيما زوجته "سارة" وابنه "يائير" اللذان تنسب لهما وسائل الاعلام تدخلات حساسة في الحكم والتعينات واتخاذ القرارات المُهمة وهو أمر غير مألوف في إسرائيل، فضلاً عن تورطهما في قضايا الفساد المنسوبة لنتنياهو، فالحكم "الحريدامي" الشخصي للدولة ومؤسساتها الى جانب الدور الذي تلعبه عائلة قاد الى نفور قطاعات واسعة من الجمهور والأحزاب السياسية وحتى مؤسسات الدولة.
  3. أما قضايا الفساد المنسوبة لنتنياهو وعائلته فهي ملفات كبيرة وغير مسبوقة في تاريخ الدولة العبرية، ومحاولات نتنياهو للتملص منها رغم توجيه لوائح اتهام بثلاثة ملفات على الأقل، جعل من إمكانية القبول بترأس نتنياهو للحكومة مسألة صعبة ولا يُمكن استساغتها من جانب الأحزاب والقوى التي تتفاوض لتشكيل ائتلاف جديد لاسيما معسكري الوسط واليسار في حين يتشتت نتنياهو والليكود والائتلاف اليميني بشرط رئاسة نتنياهو للولاية الأولى للحكم في اطار الصراع على البقاء السياسي لنتنياهو وائتلافه اليميني، فالانطباع العام السائد أن نتنياهو يتشبث بالحكم بأي ثمن حتى ولو على حساب القانون والأعراف ومصالح الدولة العُليا.
  4. في عهد نتنياهو في العقد الأخير تنامت حدة الاستقطابات والصراعات الاجتماعية والدينية والطائفية والطبقية، وتسارعت وتيرة تحليل الاقتصاد الى الشكل الليبرالي، كما تنامت رقعة الحيز الذي تحتله الأحزاب الدينية وامتدادها الى ساحات تُهدد الطابع العلماني للدولة، وهو ما أغضب قطاعات علمانية واسعة تركت ليبرمان أن يركب موجهة هذه التذمرات ويُعبر عنها وينأى بنفسه عن مُعسكر اليمين ليتحول الى المعادلة الأهم في تشكيل أية حكومة قادمة.

إن الاستعصاء الذي تشهده الحالة السياسية الإسرائيلية ومدى قدرتها على تشكيل حكومة جديدة ينبع من إصرار المُعسكرين المتصارعين الى جانب لبرمان على مطالبها لأنها مسألة حياة أو موت لكلا المعسكرين، حين تحول لبرمان وحزبه الى العنصر الحاسم في أي تشكيل، فهل ستنجح الأحزاب السياسية لكسر الحلقة المُفرغة والوصول الى صيغة ترضي الجميع؟ وهل تؤشر إمكانية انتهاء عهد نتنياهو كمرحلة جديدة في تاريخ الدولة العبرية؟

من الواضح أن ولادة حكومة إسرائيلية جديدة ستكون عسيرة وفي حال ولادتها فإنها على الأغلب لن تستمر طويلاً، وفي حال الإخفاق في تشكيل الحكومة والذهاب الى خيار الانتخابات الجديدة للمرة الثالثة على التوالي فإن النتائج ستكون مُقاربة للنتائج الحالية حسب استطلاعات الرأي الأخيرة، لننتظر ونرى كيف يُمكن أن تتطور الأحداث في الأيام القادمة.