من داخل زنزانته، الأديب والشاعر الفلسطيني القيادي في الجبهة الشعبية كميل ابو حنيش يكتب

ماذا تبقى لنا

ماذا تبقى لنا

 

في بداية ستينات الفرن الماضي كتب غسان كنفاني روايته الرائعة "ما تبقى لكم" وبقدر ما كانت رواية تعالج حالة الضياع الفلسطينية بعد ضياع الوطن وتعكس حالة الشرذمة والهزيمة العربية في تلك المرحلة، بقدر ما تعكس أهمية الأدب المقاوم في كشف وفضح المسكوت عنه واستنهاض الهمم والتبشير بالثورة بوصفها الفعل الإنساني الوحيد الذي من شأنه أن يعيد الحقوق لأصحابها ونحن إذ نستعيد اسم الرواية عنواناً لهذا المقال ونتساءل ماذا تبقى لنا، وبقدر ما يتعذر للذهن إن إثارة مثل هذا السؤال على شكل رواية من جانب غسان إنما يرتبط بالأرض والمساحة التي تبقت لنا كفلسطينيين من أرض فلسطين التاريخية.

ماذا تبقى للفلسطيني الذي أصبح لاجئاً في مخيم بعد أن فقد أرضه، إلا إنه بعيداً عن تفسير ما تضمنته الرواية وسؤالها، فإن السؤال يفتح الباب على أسئلة أخرى تتعدى الحدود والمساحات والحصص وتتجاوز الفلسطيني لتشمل العربي أيضاً كما وتتجاوز تلك المرحلة القاسية وتُبقي السؤال معلقاً للزمن العربي برمته في قادم الأيام ويشمل السؤال التاريخ والجغرافيا والثقافة والكرامة والقيم والوجود العربي برمته.

وبعد أكثر من 60 عاماً على هذا السؤال الذي جاء عنواناً لرواية أدبية نتساءل اليوم أجل.. ماذا تبقى لنا كفلسطينيين وكعرب بعد مل هذه الرحلة القاسية من المعاناة والتخلف والهزائم والتبعية، ماذا تبقى لنا بلغة الجغرافيا والمساحات بعد أن ابتلعت الصهيونية فلسطين وأجزاء من الأراضي العربية ولا تزال شهيتها مفتوحة لابتلاع المزيد من الأراضي والثروات والأسواق العربية، وبلغة التاريخ ماذا تبقى لنا بعد أن قرر قادة العرب الخروج مبكراً من التاريخ ولم تعد صانعته مسألة مهمة بل نشتريه جاهزاً على شكل صفقات سلاح وبضائع وأفكار وايدولوجيات وخبرات واستشارات أجنبية، فالماضي تكتبه الانظمة بما يروق لها وما ينسجم مع مصالحها في الحكم، أما الحاضر فهو حاضر الأنظمة ومستقبل الشعوب وبهذا يصبح الماضي هو الحاضر والحاضر هو المستقبل، وحين يُستفتى رجال دين يطلقون على أنفسهم علماء فإنهم يُؤكدون هذه الحقيقة ويتملقون الأنظمة فالعلماء على دين الملوك وعلى الرعية أن تطيع أولياء الأمر.

وبلغة السياسة فإنها مصالح وليس بكائيات على الأطلال ولأنها مصالح فلا بأس من إحراق بضعة شعوب عربية في سبيل إنقاذ دولة بعينها، ولإنها مصالح فلا بأس بالتضحية بالشعب في سبيل إنقاذ النظام ولإنها مصالح فلابد من التضحية بالنظام لإنقاذ العرش وفي سبيل إنقاذ الرئيس أو الملك ليحترق العالم ويبقى الزعيم الملهم والمُفدى.

وبلغة القيم والتراث فهي شأنها شأن السوق خاضعة للعرض والطلب والمزايدات، فالشهامة والنخوة تقتضي أن نهب لنجدة أمريكا إن تعرضت لإعصار أو لأزمة اقتصادية وإن ندفع ترليونات من الدولارات لإنقاذها من الإفلاس وأن نشتري السلاح لكي نذبح شعب اليمن والعراق وسوريا وليبيا، والالتزام بالعهود يقتضي الإبقاء على حصار غزة وتجويعه ونتحالف مع الروم ضد الفرس لأن الروم قوم أهل كتاب فيما الفرس وثنيون مجوس يعبدون النار، ولا بأس من إعادة الحلف مع بني قريضة والنظير فهذا حدث بالأمس، والعمل بصفة النبي تقتضي أن نفتح أبوابنا وقصورنا لأحفادهم وسلالتهم المتمثلة بإسرائيل.

وحسب التقاليد العربية لا يجوز أن نرفض صفقة القرن وتعين علينا عدم إغلاق الباب بوجه الضيف الأمريكي لأنه صهر الرئيس ومبعوثه الشخصي نشتري البضاعة وبعدها نناقش في السعر حتى لو كان باهظاً، حتى لو كان يشطب مصير شعب ويشكل خطراً على مصير ومستقبل أمة بأكملها.

أجل ماذا تبقى لنا في هذا الظلام العربي الدامس، تبقت لنا الكرامة والإيمان بالمستقبل، تبقى لنا ضرورة الإيمان بالثورة وحتمية الانتصار، هكذا تهاوت الأنظمة الاستبدادية، هكذا تندحر الاحتلالات بلادنا وهكذا تحررت الجزائر وسيناء ولبنان وغزة، علينا التشبث بالأمل بأن الحال لن يدوم ولن يلبث أن ينفجر البركان وتتحرر الأوطان، تبقى لنا التشبث بالمصير المشترك والحلم المشترك وتبقى لنا ثقافة المقاومة والدفاع عن حقنا في الوجود، هم لم يتبقى لديهم أي شيء، لقد أفلسوا وبقيت جثثهم المخبطة، فيما نحن تبقت لنا الحياة.

ولأننا نؤمن بالمستقبل والحرية ستنتصر فلسطين وسينتصر لبنان وستنتصر الشعوب العربية وسينتصر الإنسان وستتهاوى قلاع الاستبداد وسيندحر الاستعمار والاحتلال، هكذا كان الحال في الماضي سقط الأسياد وتحرر العبيد وتحولت قصور الإقطاع إلى خرابات ومهاوٍ للأفاعي وبنات آوى، هكذا اندحر الاستعمار وتحررت الشعوب، تبقى لنا كل شيء لإدراكنا أن الثورة مسألة وقت ومسألة شرف ومسألة حياة أو موت وأن هذا الحال لن يدوم طويلا، هذه هي رسالة غسان التي أثارها برسم سؤال للمستقبل ومن الجيد أن تعدد الإجابات على هذا السؤال ولكن بشرط أن تكون إجابات منسجمة بما يليق بأدب غسان المقاوم وليست إجابات تستدعي الضعف واستبطان الهزائم.