بقلم الرفيق الأسير كميل أبو حنيش

ما الذي يكمن وراء اجراء انتخابات جديدة في دولة الكيان

لم يتوقع نتنياهو في أسوء الظروف عدم تمكنه من تشكيل حكومته الخامسة وأن يأتي العائق من داخل معسكره التقليدي وفوق كل ذلك الذريعة الواهية التي تذرع بها ليبرمان للحيلولة دون تشكيل مثل هذه الحكومة، لقد تفاجأ العالم بل وتفاجأت إسرائيل ذاتها بأحزابها ومظلتها السياسية من هذه النتيجة والذهاب الى انتخابات جديدة ولم يجف بعد حبر نتائج الانتخابات الأخيرة التي جرت في التاسع من نيسان الماضي، حيث كانت معركة انتخابية حامية الوطيس تمكن من خلالها نتنياهو من تحقيق فوز ساحق على خصومه السياسيين وضمن حكمه وحكم معسكر اليمين لسنوات طويلة قادمة، وكان على وشك الانتهاء من ترتيب وضعه كما يضمن تحصينه من إمكانية محاكمته بتهم الفساد المنسوبة إليه.

وهذه المفاجأة تنبع من اعتبارات عدة: أولها فشل (الساحر) نتنياهو والرجل القوي بحزبه ومعسكره في تشكيل حكومة بعد أن خاض معركة شرسة ومصيرية في حياته السياسية، وثانيها أن يأتي إفشال تشكيل الحكومة من داخل معسكر اليمين الذي حقق فوزاً ساحقاً في الانتخابات الأخيرة بواقع (65) مقعداً من أصل (120) مقعد، وثالثها أن هذه الضربة جاءت من ليبرمان الحليف التقليدي لنتنياهو وشريكه في كافة حكوماته، ورابعها أن ليبرمان بالكاد تجاوز نسبة الحسم بحصوله على (5) مقاعد ولم يتوقع أحد أن يُغامر ويكون سبباً في الذهاب إلى انتخابات جديدة قد تُنهي حياته السياسية، وخامسها أن تذهب إسرائيل إلى هذه الانتخابات بسبب ذريعة من غير المتوقع أن تُشكل عائقاً أمام تشكيل الحكومة ويستخدمها ليبرمان حجة لإفشال الأخيرة، وسادسها أن هذه الحكومة كان من المُفترض أن تسعر لتغيير بُنية الدولة وتحجيم سلطة القضاء وضمان حكم الائتلاف اليميني لسنوات طويلة قادمة بعد أن جرى إضعاف كافة الخصوم والأحزاب السياسية، وسابعها وهو الاعتبار الأهم أن إفشال تشكيل هذه الحكومة جاء بالوقت الذي كانت تستعد فيه إسرائيل لتحولات وتحديات استراتيجية في المنطقة منها صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية وإمكانية توريط إيران والمنطقة في حرب إقليمية جديدة والاستعداد لتحويل إسرائيل إلى امبراطورية إقليمية تُهيمن على كامل المنطقة.

إن هذه الاعتبارات المهمة التي يمتلكها نتنياهو أكثر من غيره اعتبرها طعنة من ليبرمان الذي أفقده متعة انتصاره في الانتخابات الأخيرة بعد أن كاد تشكيل حكومته الخامسة وينجو من الملاحقة القضائية، جعلته يستشيط غضباً مُحملاً ليبرمان المسؤولية في إفشال حكم اليمين وافشاله هو شخصياً بوصفه الرجل الذي انتخبه الجمهور ليقود إسرائيل ثانيةً والعبور بها إلى بر الأمان ووسط بحر متلاطم الأمواج من الحروب المشتعلة في المنطقة، هكذا صور نتنياهو المشهد متهماً ليبرمان بالتخطيط لحكم معسكر اليمين والأمن القومي والبحث عن مصالحه الشخصية الضيقة، ولكن ورغم الاعتبارات السلفة الذكر التي شكلت مفاجأة لم يتوقعها أحد، ورغم غوغائية نتنياهو بصب جام غضبه على ليبرمان، كيف يمكننا أن نقرأ إصرار ليبرمان على مطالبه التعجيزية التي أدت في النهاية إلى هذه النتيجة؟

يتعين علينا في البداية أن نُشير إلى أن هذه الأزمة غير مسبوقة في إسرائيل، وإذا كان متوقع لها أن تحدث فبسبب عوامل خارجية أو داخلية مهمة وحاسمة ومصيرية لدولة الكيان، فهذه الأزمة لم تحدث بسبب حربٍ أو انتفاضة أو اختلاف على اتفاقيات تسوية سياسية أو انسحابات أو تهديد استراتيجي أو ضغوط دولية، كما أنها لم تحدث بسبب عوامل داخلية على غرار أزمة اقتصادية أو اجتماعية أو صراعات بين المعسكرات الحزبية والسياسية والأيديولوجية كما يجري عادةً في بعض دول العالم تستدعي مثل هذا الخيار في الذهاب إلى انتخابات جديدة.

كما أنها ليس أزمة حقيقية داخل معسكر اليمين حول إحدى القضايا السياسية الكُبرى التي تستدعي مثل هذا الخيار خاصةً بعد أن جرى تذليل كافة العقبات وكانت المفاوضات الائتلافية تجري بصورتها المعهودة بالابتزاز والمناكفات الحزبية كما هو دارج ومألوف مع تشكيل أية حكومة في إسرائيل.

فإذا كانت كافة هذه العوامل التي من شأنها أن تمنع تشكيل الحكومة غير موجودة، واذا كانت تتوفر كافة الشروط اللازمة والمُريحة لتشكيل هكذا حكومة، فما الذي حدث بالضبط؟ ولماذا أصر ليبرمان على إفشال نتنياهو؟

العقدة التي شكلت واجهة وذريعة لدى ليبرمان هو قانون التجنيد لليهود المتدينين، وهي إشكالية لم يكُن مُتوقعاً أن تنفجر داخل معسكر اليمين، إلا أن ليبرمان أراد أن يُفجر أزمة معروفة وصراعاً كامناً في الدولة العبرية منذ عقود طويلة يتعلق بالصراع على هوية الدولة، وهو ما يُعبر عنه في الصراع بين المُعسكرين الديني والعلماني، واذا كان هذا العنوان أساسياً ويعتبر من الصراعات الكامنة التي من الممكن أن تتفجر في أية لحظة، إلا أنها كانت مُؤجلة لصالح صراعات وأزمات أُخرى، وكأن العناصر والأحزاب التي كانت من المفترض أن تُفجر مثل هذا الصراع هي الأحزاب القائمة في المعسكر الآخر، حزب "يوجد مستقبل" العلماني بزعامة يئير لبيد أو حزب "ميرتس"  أو "العمل"، ولكن أن تأتي هذه المعركة من داخل معسكر اليمين ذاته ومن ليبرمان تحديداً والذي كان يتركز خطابه السياسي على مُعاداة العرب  والفلسطينيين، واذا به يبدو المُدافع الأشرس عن الوجه العلماني للدولة أمام تغلغل التيار الديني الذي يسعى الى فرض تعاليم الشريعة في الدولة على حد زعم ليبرمان.

بالطبع كانت هذه ذريعة، إذ لم تتفجر هذه الأزمة ولم يُصفق أحد لليبرمان من جانب الأحزاب والتيارات العلمانية لأنهم يدركون أن هذه الأزمة ليست عنوانها "قانون التجنيد" أو "الدفاع عن الطابع العلماني للدولة"، وإنما الأزمة تعتبر شخصية بامتياز وصراع على السلطة وآليات اتخاذ القرار في صفوف معسكر اليمين.

ففي العقد الأخير تمكن نتنياهو من فرض سطوته الشخصية على حزبه ومعسكره وعلى سائر مؤسسات ودوائر الدولة، حتى بات هو الشخص الوحيد المُقرر ولا أحداً غيره، وتحول الوزراء والنواب وقادة الأحزاب إلى مجرد أدوات خاضعة تماماً لنتنياهو، وخلال ثلاثة حكومات شكلها نتنياهو على التوالي وشارك فيها ليبرمان تفجرت خلافات بينهما أكثر من مرة حول السياسة الخارجية والأمن، حيث كان ليبرمان قد شغل موقع وزارة الخارجية لدورتين متتاليتين، ووزارة الدفاع في الحكومة السابقة قبل أن يستقيل احتجاجاً على عدم قدرته على ممارسة صلاحياته والأخذ بوجهة نظره، وقد نجم عن هذه الخلافات أزمة شخصية بينه وبين نتنياهو جرى التعبير عنها أكثر من مرة في وسائل الاعلام، فليبرمان يرى بنفسه أحد زعماء اليمين وشريك في الحكم وليس مجرد عضو في حزب "الليكود" كما صرح أكثر من مرة، وقد عبر عن مرارته بالإهانات الشخصية التي تلقاها من نتنياهو ومن المقربين منه في حزب "الليكود".

ورغم أن هذه الخلافات والمُلاسنات مألوفة في اسرائيل ويجري القفز عنها بعد تشكيل أية حكومة إلا أحداً لم يتوقع أن يكون لها هذا الأثر في تعطيل إمكانية تشكيل الحكومة.

أما الوجه الآخر لهذه الأزمة والتي وإن تعدت الخلافات الشخصية تظل مرتبطة أيضاً بالاعتبارات والحسابات الشخصية الضيقة وهي تتعلق بالمستقبل السياسي لليبرمان الذي أوصلته الانتخابات الأخيرة على الحافة وبالكاد تجاوز نسبة الحسم، فما الذي جعله يُقدم على هذه المُغامرة التي قد يكون من شأنها أن تؤدي إلى نهايته السياسية؟ إن إقدام ليبرمان على هذه المغامرة لا يعكس تثبه المبدئي بهوية الدولة العلمانية فهو شخصية غير مبدئية وتتصف بالانتهازية، وإنما تنضوي هذه المغامرة على استثمار سياسي مستقبلي، فهو يرغب في الظهور بمظهر البطل الحقيقي لهذه الدراما السياسية، وأنه يُشكل معادلة مهمة في إسرائيل، كما أنه يرغب في توسيع رقعة مؤيديه لتشمل أوساطاً علمانية تؤيد تقليدياً أحزاب أُخرى مثل جزب "يوجد مستقبل" الذي يرأسه لبيد يبدو من خلال هذه العملية في صورة المُنقذ لطابع الدولة العلمانية أمام شراسة وطفيلية التيار الديني، كما أنه يُدرك أنه لن تتشكل أية حكومة يمينية مستقبلية من دونه في ضوء احجام الأحزاب والمعسكرات السياسية الأُخرى عن المُشاركة في حكومات يرأسها نتنياهو، وبالتالي فإنه سيكون رقماً صعباً في أية حكومة مستقبلية وسيأخذ بالاعتبار كافة مطالبه وشروطه حتى وإن كانت تعجيزية، وسيكون بوسعه التصرف في أية وزارة يشغلها دون أية تدخلات أو قيود تفرضها الحكومة ورئيسها، وباختصار يسعى ليبرمان لتحجيم سطوة نتنياهو وتقليم أظافره وإلا فإنه سيُلوح بإسقاط الحكومة في أية لحظة.

وقد تكون أهداف ليبرمان بعيدة المدى من وراء هذه المُغامرة، إذ أنه لا يسعى لقلب الطاولة وحسب وإنما هدم المعبد أيضاً وبعبارة أُخرى قد يكون ليبرمان يسعى الى حرمان نتنياهو من إمكانية تحصين نفسه من المُلاحقة القضائية أو المُحاكمة، وهو يُدرك أن غياب نتنياهو عن المسرح السياسي وعن زعامة حزب "الليكود" من شأنه أن يُضعف "الليكود" ومُعسكر اليمين، وأنه بهذه العملية سيتمكن في السنوات القادمة من تعزيز حضور حزبه في الخريطة السياسية، الأمر الذي يُهيئه أن يكون زعيماً لمعسكر اليمين وبالتالي قد يوصله هذا السيناريو إلى رئاسة الحكومة أو على الأقل إلى شريك مهم وليس هامشي في أية حكومة.

وقد يكون من المُبكر الحكم على هذه الخطوة ومن النتائج التي من الممكن أن تفضي إليها، وبوسعنا القول أن ما حدث يعتبر مفصلاً مهما في تاريخ الدولة العبرية ومرحلة جديدة في العلاقات السياسية تنضوي على الصراعات الشخصية الحادة التي تكشف عن تعفن الدولة وانتهازية قياداتها وحساباتهم الشخصية الضيقة، ففي سبيل البقاء السياسي قرر شخص واحد هو ليبرمان أن يجر الجميع الى انتخابات جديدة، وفي سبيل النجاة من المُحاكمة قرر شخص واحد وهو نتنياهو أن يُحجم سُلطة القضاء ويسعى الى تغير شامل في بُنية الدولة.

لقد أحدث تقديم الانتخابات الجديدة صدمة قوية في إسرائيل لدى كافة المعسكرات والأحزاب السياسية ولم يكُن أحد يرغب في هذه الانتخابات والتي من شأنها أن تستنزف الجميع ولم تُقدم ما هو جديد للناخب الإسرائيلي، وقد تفتح الباب على مصراعيه أمام تكتلات وصراعات جديدة وقد تُلقي بظلالها على واقع ومُستقبل دولة الكيان.

وقد خرج نتنياهو جريحاً من هذه المعركة مع ليبرمان وتبددت نشوه انتصاره الانتخابي الأخير بعد أن استثمر في هذه المعركة لانتخابية عدداً هائلاً من الأوراق الداخلية والخارجية، ويتعين عليه جمع أوراقه والاستثمار من جديد، ومهما كانت نتائج الانتخابات القادمة في صالحه وصالح معسكر اليمين فإن قواعد اللعبة قد تغيرت بعد أن بات ليبرمان عنصراً حاضراً في أي تشكيل حكومي، خاصة في ضوء استطلاعات الرأي الأخيرة التي تُشير الى زيادة في عدد المقاعد التي من المُتوقع أن يحصل عليها في الانتخابات القادمة.

ومن المُبكر الحديث عن الأحزاب والتكتلات التي ستخوض هذه الانتخابات والعناصر الجديدة التي ستدخل الى هذه المعركة، ولكنها حتماً ستكون معركة غريبة وقد تنضوي على مُفاجآت لم يتوقعها أحد، وفي كل الأحوال كشفت هذه الحادثة عن ضعف نتنياهو (الساحر) والمُفرط بثقته بذاته، وأصابت جنون العظمة لديه بعد أن وضع نفسه في مصاف قادة الدول العظمى، وأحب أن يبدو بصورة "فلادمير بوتين" لأطول فترة حكم بعد أن رسخ حكمه في الدولة، إلا أنه بدى أنه صغيراً أمام العالم، حيث كان بإمكان حزب صغير وشخصية مُقربة إليه كليبرمان أن توقفه على أصابع قدميه وتُعيده إلى مربع الانتخابات من جديد، كما كشفت هذه الحادثة عن صورة لم يتنبه لها أحد من قبل وهي أن هذه الدولة يجري التصرف بها كإقطاعية خاصة من جانب حفنة من القادة والزعماء، أما المصلحة القومية العليا والديمقراطية وغيرها من الشعارات تُصبح مجرد قشور أو مساحيق لتجميل الوجه القبيح لدولة الكيان، فيما يتحول قادتها المُتشدقين بمصلحة الدولة بصراعاتهم الى أُمراء ومُلوك أشبه بصراعات ملوك الممالك الصليبية قبل ألف عام قبل أن تتهاوى هذه الممالك واحدةً تلو الأُخرى، ولن يكون مصير المملكة الصهيونية سوى اللحاق برك هذه الممالك والامارات التي ابتلعتها رمال المنطقة.