الأسير شادي الشرفا يكتب ... عودة الى "دولة-المدينة"

المصدر / خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

دولة-المدينة هي كناية للمدن القديمة التي لديها حاكمها ونظامها السياسي الخاص، وقد اشتهرت في العهد اليوناني القديم، ومن أبرز دول المدينة المعروفة كانت أثينا واسبرطه المتنافستان، وقد انتهى نسبياً عهد دولة-المدينة حين أقدم الاسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد على توحيد البلاد وبناء امبراطوريته التي لم تدُم طويلاً، وبذلك فإن مفهوم دولة المدينة، هو نظام ما قبل الدولة الحديثة بالمفهوم العصري، وهو شكل من أشكال البدائية في النُظُم السياسية.

إن حال دولة المدينة أضيق في نطاقه من طبيعة الظروف الفلسطينية الحالية، فبفعل الانقسام المُشين بدأ يتبلور لدينا نظامان سياسيان متباينان ومتصارعان في الضفة وآخر في غزة، وكل نظام لديه حاكمه ومنظومة علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة، وفي ظل تباعد المُصالحة واتساع الشرخ لدى الطرفين المتصارعين، ومن جهة أُخرى انعدام أي أُفق حل سياسي أو توافق ديمقراطي فإن مصير دولة-المدينة سيكون حال "شطري الوطن"، أي قد نواجه انهيار هذه النُظم السياسية القائمة وتشرذمها واحلال مكانها مُدن وقرى ومخيمات متصارعة يقودها حفنة من المنتفعين وأصحاب النُفوذ المُتمفصلة مع قوى الاحتلال وأجهزته الأمنية.

لربما سيُطبق مفهوم دولة-المدينة على المنطقة بأسرها كجزء من المشروع الإمبريالي الاستعماري الذي تقوده أمريكا وحليفتها إسرائيل، كي تستمر حالة إخضاع العالم العربي وضمان نهب خيراته وموارده، وفلسطين لن تكون بمنأى عن مشروع شرذمة وتجزئة المنطقة، حيث ستأخذ حصتها المُرّة منها، ولاسيما في الضفة الغربية... فلا غرابة أن نشهد انهيار النظام السياسي العقيم الذي جلبه أوسلو لنواجه نموذجاً متجدداً من دولة-المدينة المُتناثرة والمتنازعة على طول وعرض الضفة، وهذا ليس بغريب، أو استحضار ساذج للتاريخ، فها هي الكتابات الصهيونية المُعاصرة تتحدث عن تحطيم الضفة إلى كانتونات معزولة كأحد الحلول المطروحة لتصفية القضية الفلسطينية، وإدراكاً منها أن السلطة مزيفة وضعيفة وتفتقد الى المركزانية والقبول الجماهيري والتوافق السياسي، وبالتالي تقوّض ببنيتها الحالية التي تُشبه في تكويناتها حال ما قبل الدولة.

فالهدف الأسمى للصهيونية الاستعمارية الاستيطانية يكمن في إلغاء الكينونة الفلسطينية، ويندرج في سياق ذلك استبدالها بمنظومة متصارعة بين المدن والقرى والمخيمات، أشبه بمجتمع البداوة الذي تقوده قبائل وعشائر صاحبة النُفوذ، أي دولة-المدينة بتعبير آخر.

وحقيقة الأمر لا يختلف ذلك كثيراً عن المنظومة السائدة في سجون الاحتلال، حيثٌ يُوَزع غالبية الأسرى بناءً على تقسيم مناطقي وجغرافي في سجون وأقسام مختلفة ومنفصلة، ويقود الأقسام ممثل ما معه حاشيته من ذات المنطقة الجغرافية، وتحميهم مظلة مُعقدة من الحماية الأمنية لإدارة مصلحة السجون، فصار لدينا هنا وهناك أقسام متنازعة في أغلب السجون يقودها ممثلين لا يعبرون عن البُعد الوطني والسياسي للأسرى الفلسطينيين، ويشكلون وصمة عار في تاريخ الحركة الأسيرة بتواطئهم مع إدراة مصلحة السجون ضد مصلحة الأسرى.

يُذكرنا هذا الحال بما سُميَ بـ "الكافو" وهي كناية لأسرى اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، الذين كانوا في معسكرات الاعتقال النازية عينهم الألمان كممثلين للأسرى ومتعاونين معها، و للـ "كافو" تاريخ حافل في التنكيل بالأسرى والتبليغ عن محاولات التمرد أو الهرب من معسكرات الاعتقال، كما كان لهم دوراً في اقتياد الأسرى من شيوعيين ويهود وغجر إلى الإعدام ضمن ما يُسمى بـ"الحل النهائي" كما روته كُتب التاريخ.

بكل الأحوال فإن مشروع دولة-المدينة لا يختلف كثيراً عن حال بعض السجون أو عن مشروع "روابط القرى" مع بعض الإضافات الجديدة، ومن يعلم ربما سيقود هؤلاء الممثلين في السجون دولة-المدينة المنشودة من الاحتلال حينما يُفرج عنهم، وهذا بالضبط ما تحدث عنه مدير استخبارات السجون في كتابه أكشاك (نسبة الى كُشك) والذي سحبته الرقابة الإعلامية الأمنية الإسرائيلية كونه يكشف مخططات وأسرار اعتبرتها خطيرة، فالكتاب يُشير الى ضرورة تمهيد فئة تحظى بشعبية وقبول لدى الشارع منها الأسرى من أجل ضبط الأمور في الضفة بالتعاون مع قوات الاحتلال في حال انهيار السلطة أو انتشار الفوضى، ولا يستبعد الكاتب أن تأخذ الأجهزة الأمنية الفلسطينية سيئة السمعة دوراً بالغ الأهمية في هذا المضمار.

صحيح أن دولة-المدينة هي أحد السيناريوهات المحتملة والتي سيضطر شعبنا وقواه الحية إلى مقاومته، وصحيح أيضاً أن القيادة الصهيونية تجد في اعتلاء ترامب سدة الحكم فرصة تاريخية لتحقيق أهدافها في تصفية القضية الفلسطينية، وبهذا السياق فإن استمرار الانقسام والخطوات الأحادية والعقوبات والإصرار على إخضاع الآخر كلياً لا يخدم سوى مشروع الاحتلال الاستعماري الاستيطاني، الذي يسعى إلى تفريغ فلسطين من محتواها الفلسطيني، فإذا كانت الأرقام التي تُشير إلى هجرة أكثر من 20 ألف مواطن فلسطيني من غزة في الشهور القليلة لفتح معبر رفح مخيفة، فإن أرقام شبه مماثلة تنطبق على الضفة والقدس، ويبدو أن شعار تعزيز صمود شعبنا على أرضه كما تتبجح به الزعامات لم يكن سوى كذبة كبرى استخدمت للاستهلاك الإعلامي والشعبوي فقط، ففي القدس التي من المفترض أن تكون عنوان النضال الفلسطيني إلى جانب قضية اللاجئين، والتي لا يكف السياسيين عن القول أنها العاصمة الأبدية لفلسطين، وأقيمت وزارة ومحافظة خاصة لهذه المدينة العريقة مع ذلك لا نجد استثماراً حقيقياً للبشر فيها، بدليل أن نسبة من يقطن خارجها يتزايد ناهيك عن هجرات الكثير منها، أو سعي المئات من الجهلة وراء الجنسية الإسرائيلية، فلتكف القيادة عن إشباعنا على أن القدس هي أولوية، وهي لا تفعل ولا تضخ سوى الفتات لهذه المدينة ولأهلها الصابرين.

وإلى جانب الانقسام فإن حالة اللامبالاة وغياب الاستراتيجية السياسية وملاحقة المقاومة من قبل الأجهزة الأمنية المتعاونة، كل ذلك يخدم مشروع دولة-المدينة المرتقبة، فالعدو الصهيوني يُحكم السيطرة على الضفة ويدمر مشروع الدولة العتيدة كلياً، عبر سياسة احتلالية تقوم على حسم الصراع من خلال فرض وقائع على الأرض، خاصة وأن العقلية الاستيطانية الاستعمارية هي المسيطرة، إلى جانب سيطرة النخب الدينية الاستيطانية على عملية اتخاذ القرار العسكري والسياسي، وهذا ما يلغي أي أُفق لتسوية سياسية، ناهيك عن أن حل الدولتين ولد ميتاً بالأساس.

من هنا فإن مشروع اليمين الصهيوني قائم على ضم الضفة وشرقي القدس وإلغاء فكرة الدولة الفلسطينية، عبر توسيع المستوطنات، وشرعنة وسلب الأراضي من أصحابها الأصليين، ومواصلة بناء جدار الفصل العنصري، وصولاً إلى بناء دولة واحدة بنظامين؛ الأولى، قائمة على أساس القانون القومي العنصري لإلغاء الحقوق الجماعية لفلسطينيي الداخل، أي إلغاء الهوية الجامعة على طريق تشييد دولة يهودية قومية قاعدتها الحقوق الفردية لا الجماعية للفلسطينيين، والثانية، فيم تبقى من الأراضي الفلسطينية المُحتلة عام 1967، حيث يسود بها ليس نظام فصل عنصري، إنما شكل جديد من السيطرة والعبودية، حيث تلغى هناك الحقوق الجماعية والفردية على السواء، ولإستكمال خطة الإحتواء تلك يتم إضعاف، بل وسحق التمثيل الفلسطيني ومؤسساته الوطنية، وخلق "فوضى خلاقة" تحول الضفة إلى كانتونات، أو معسكرات اعتقال كبيرة شبيهة بـدولة-المدينة، وذلك في كل مدينة وقرية ومخيم، وتجعل إمكانية الحياة والاستدامة فيها شبه مستحيلة، ولا تتنفس إلا بقدر ولائها الأمني لأجهزة الإحتلال.

مقابل هذا الواقع فإن المشهد الفلسطيني بحلته الجديدة وقيادته المتزعمة وصراعاته وأجهزته الأمنية المتعاونة، عاجزة عن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، كما نشهد تراجع في الأداء السياسي خاصة في ظل حالة الإقصاء وحكم الفرد الواحد، كل ذلك يفتح الأبواب أمام إمكانية تطبيق مشروع دولة المدينة، كأحد السيناريوهات المُعدة لإلغاء الكينونة الفلسطينية والهوية العربية.

مؤلم القول، لكن يبدو أن العنجهية السياسية الفلسطينية والاستعلاء والفساد والقتل الأمني والإقصاء يُعتبر حجر الزاوية في مشروع دولة-المدينة... أي إننا نُشيد المشروع الخطير بأيدينا.