الأسير كميل أبو حنيش يكتب "خيارات اليائسين"

المصدر / خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

ما من شك أن الأوضاع العربية في هذه اللحظة التاريخية تشهد أسوأ أحوالها وما فتأت أزمات الأمة العربية المتشعبة والمتراكمة في التاريخ تتنامى وتتغذى من بعضها لتنتج لنا هذه الحالة المأساوية، فلماذا تفشل هذه الأمة حتى اللحظة في إنجاب قادة تاريخيين أو حركات ثورية حقيقية تمسك بزمام اللحظة التاريخية وتصنع الحدث العظيم الذي تنتظره أجيال وأجيال في انتصار الأمة العربية لذاتها وتتوحد وتقود شعوبها نحو الحرية والخلاص والكرامة والديمقراطية؟ وكيف سمحت شعوبنا لأنظمتها المتخلفة أن توصلها إلى هذه الحالة من اليأس الذي لا يدفع بها إلا للاقتتال والتناحر والبقاء على هامش التاريخ؟

منذ قرن ويزيد وقادة هذه الأمة عاجزين عن إنقاذ شعوبهم وما انفكوا يكرسون حالة التبعية ويغرقونها بالجهل والتخلف والاستبداد والدماء، فهذه القيادة العاجزة اليائسة مع نخبها السياسية والثقافية المحنطة، لا تملك أي مشروع لمغادرة الحلقة المفرغة التي تدور معها، ومن المصيدة التي لازالت عالقة بها، ومع أن هذه الأمة تمتلك كل مقومات النهضة والتقدم، وتملك المساحة الشاسعة والثروات والبحار والممرات المائية، وتملك النفط والغاز، وتملك العقول والجماهير التي تتوق للحرية والتقدم، مع كل هذا تغرق شعوبنا بالجوع والفقر والجهل والتخلف والحروب الأهلية الطاحنة، وكما يقول الشاعر: (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول. فهذه الأنظمة لا تملك أي خيارات سوى المزيد من الانبطاح والابتعاد عن الأحلام القومية الكبرى والتراجع للوراء، فمن مربع الدولة الوطنية الزائفة إلى مربع الإقليم والطائفة والمذهب والقبيلة، ولازالت تواصل رحلة انحدارها ولا شيء سوى إنتاج العجز والإحباط واليأس.

الأسئلة الُملحة التي تحضر هنا: لماذا لا تملك أجيالنا الحالية القدرة على النهوض مجدداً بعد أن فجرت الثورات التي أذهلت العالم وأعادت الاعتبار للشخصية العربية بعد أن طمستها عقود من الاستبداد؟ ولماذا عجزت عن المواصلة بعد أن خرجت بالملايين متحديةً القمع والاستبداد والسلطة الفاسدة قبل أن يجري التآمر على ثوراتها وإفسادها وإغراقها بالأموال الفاسدة لتغرق بالدماء والحروب الطاحنة؟ وما الذي منع هذه الثورات من أن تطلق مشروع الوحدة العربية؟ ما الذي يمنع دولتين عربيتين على الأقل من تجربة الوحدة للرد على مشاريع الشرذمة والانقسام والتجزئة؟ ما الذي يمنع توحد دولتين كتونس والجزائر، مصر والسودان، العراق وسوريا على سبيل المثال؟ لماذا لا نجرب؟ لماذا لا نحاول؟ لماذا لا تخرج مظاهرة واحدة تدعو لوحدة دولتين عربيتين على الأقل؟

 إن الشعور بالعجز العام يقود إلى اليأس ولا يبقى لليائسين من خيارات سوى المزيد من التبعية والتخلف والإذعان، وخيارات اليائسين هي الاستمرار في الانكفاء وإجهاض أي إمكانية للتحليق والنهوض، وعندما يتعزز هذا اليأس في حياة الشعوب تصبح حياتها لا تطاق، وتتحول الأوطان إلى سجون، يرغب الكل في الهجرة عنها، ويتلاشى الانتماء الجماعي، وتموت الأحلام الكبرى، وتصبح القضايا الذاتية الضيقة أهم من أي شيء آخر.

إن القادة العاجزين واليائسين لا يمكن لهم قيادة شعوبهم نحو الخلاص بعد أن سمحوا لأنفسهم البقاء في مربع التبعية والتخلف، وخياراتهم دائماً تأتي مخالفةً لتطلعات شعوبهم، ويجدون بالاستبداد هو الحُكم الصالح والنافع، وأن الحرية والديمقراطية لا تصلح للعرب، وبهذا يلتقون مع موقف الدولة العبرية، التي ما فتأت تسوق للعالم أنها هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأن العرب من ناحية عرقية وثقافية غير صالحين للديمقراطية وغير جديرين بالحرية وربما غير جديرين بالحياة.

كيف لدولة "كالسعودية" التي اقترحت مبادرة للسلام قبل سنوات واشترطت فيها على دولة الكيان التسليم بجزء صغير من الحقوق الفلسطينية مقابل أسمته السلام الشامل، هذه المبادرة التي تحولت إلى مبادرة عربية ومن ثم إلى مبادرة إسلامية بصقت عليها إسرائيل قبل أن يجف حبرها، أن تذهب وأخواتها الخليجيات لقلب المعادلة والتطبيع، بل والتحالف مع العدو علانيةً فيما تستمر إسرائيل بممارساتها العدوانية بحق الفلسطينيين والعرب عموماً؟ وكيف لم يدرك هؤلاء العاجزين اليائسين أن دولة استعمارية كإسرائيل تشكل خطراً على وجود ومستقبل شعوب الأمة برمتها فيما تسنى لهم أن ينشئوا تحالفاً لقتال شعب اليمن الفقير طوال أربع سنوات ولم يفكروا مجرد تفكير أن يشكلوا تحالفاً لحماية شعوب الأمة والدفاع عن قضاياها؟ كيف وجدت هذه الأنظمة مساحة للاتفاق وللتحالف مع إسرائيل ولم تجد هذه المساحة للتحالف مع العراق وسوريا والجزائر؟ وكيف لم يكن في مقدورها أن تبحث عن حلول لأزماتها وتناقضاتها مع دولة كإيران فيما تجد بدولة الكيان حليفاً طبيعياً ومهماً لها؟

إن عمى الألوان الأخلاقي والسياسي وفقدان البوصلة والعجز واليأس، هو الذي قاد لتدمير سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال وتقسيم السودان، وهو الذي سيقود إلى تدمير بقية الدول العربية وتجزئتها من جديد. فعندما تعجز هذه الأنظمة عن إيجاد حلول لأزماتها ولا تعرف كيف تدير تناقضاتها والاستجابة لمطالب شعوبها، فإنها تصل إلى حافة الانتحار الجماعي وهذا خيار اليائسين، وعندما تعجز الدول الخليجية بثرواتها الهائلة عن المساعدة في حل أزمات المنطقة العربية بل وتتحول هذه الثروات إلى أداة للتخريب والدمار فهذا خيار اليائسين.

إن اليأس هو الذي أنتج لنا ظاهرةٌ كداعش وهو الذي يبقينا في قوقعة التبعية والتخلف والهيمنة الأمريكية، واليأس هو الذي أوصلنا لخيار التحالف العلني والسري مع دولة الكيان وعقد اتفاقيات سلمية معها، وهو الذي أوصلنا لخيار الحروب الأهلية والدموية الطاحنة، وهو خيار انتحار شعوب هذه الأمة ما لم تتحرر من طاحونة اليأس.

وليس من العار أن تتعرض بلادنا للاحتلال والاستعمار فهذا أمرٌ حدث ويحدث دائماً، وليس من العار أن نتعرض لمؤامرات، وأن نُحكم على أيدي الطغاة والمستبدين، فهذا أيضاً حدث ويحدث دائماً، ولكن العار أن نستسلم لليأس ونعدم الخيارات ونصل إلى حافة الحروب الانتحارية. العار أن نتخير بين احتلال وآخر، واستبداد وآخر، ولا نبحث عن خيارات أخرى، فدائماً توجد خيارات أخرى وعلى الشعوب الحرة أن تتحرك لتقرير مصيرها وإنقاذ مستقبل أجيالها.

إننا بحاجة إلى المزيد من الثورات، وبالتالي بحاجة إلى الجرأة والشجاعة وكسر حواجز الخوف، فخيارات اليائسين هي البقاء في استحواذ العبودية، والتبعية، والتناحر، والتخلف، والفقر، والجهل، وهذا الطريق لن يقود إلا إلى الانتحار الجماعي، أما خيارات الشعوب الحرة فهي النضال الدءوب، وإطلاق الثورات الاجتماعية، والسياسية، والفكرية، والثقافية، والتشبث بالأمل، والإيمان بالمستقبل، فهذه طريق الحرية والتقدم والانعتاق، وعلينا أن نحدد خياراتنا التي تشق الطريق نحو تحقيق تطلعات هذه الأمة المنكوبة بأنظمتها ونخبها السياسية الفاسدة.