العنصري والكذاب

مساء يوم الخميس السابع والعشرين من سبتمبر وقف بنيامين نتنياهو زعيم دولة الكيان الاستيطاني العنصري على منبر الأمم المتحدة، وخطب أمام مرأى ومسمع العالم مواصلاً سلسلة أكاذيبه ومزاعمه التي لا تثير السخرية فحسب، بل تثير الاشمئزاز حتى القرف، ونحن لن نتوقف أمام الحركات المسرحية، التي دأب نتنياهو على تكرارها في كل مرة، بوصفه يقود دولة كولونيالية غاصبة وممارساتها العنصرية تزكم الأنوف، من قبل حتى أن توجد هذه الدولة، ولكننا سنتوقف عند محاولة نتنياهو البائسة في تبرئة دولته من صفة العنصرية واحتجاجه على هذه السمة التي يسمها بها الفلسطينيين، بل والعالم، نافياً عن دولته سمة الأبرتهايد، ومستحضراً أمثلةً  تُبرء إسرائيل من هذه التهمة، وتثبت أنها دولة ديمقراطية وحضارية. والمفارقة أن نتنياهو استحضر مثلين للدفاع عن "إسرائيل" من تهمة العنصرية، وهما بالضبط أهم مثلين يمكن لأي باحث بسهولة استحضارهما للدراسة لإثبات عنصرية إسرائيل وفاشيتها، ففي خطابه زعم نتنياهو قائلا: (إن من يجلب اليهوديين الأثيوبيين من أثيوبيا ليعيشوا في إسرائيل الديموقراطية، وبظروف جيدة لا يمكن أن يكون عنصرياً).

كلنا نعرف بما بتعلق بالعرب الذين فرضت عليهم الهوية الإسرائيلية في مناطق الـ 48، حيث زعم نتنياهو (أنهم ينالون حقوقهم كاملة وبالضبط كنظرائهم اليهود في الدولة)، كما نفى نتنياهو أن تكون "إسرائيل" قد ارتكبت تطهيراً عرقياً بحق الشعب الفلسطيني عام 48 ، وبهذا ومن خلال بعض الجمل المنمقة باللغة الإنجليزية برّء نتنياهو ساحة "إسرائيل" وزوّر التاريخ، وكأن الدولة التي يتحدث عنها قائمة على كوكب آخر، وليست هي دولة الكيان الصهيوني الاستعماري الأشكنازي العنصري.

فالأثيوبيون اليهود الذين يطلق عليهم في دولة الكيان مسمى "الفلاشة"، والذي تباهى نتنياهو أنهم يعيشون حياة كريمة في "إسرائيل" هم أكثر طائفة يهودية مهاجرة يمارس بحقها التمييز العنصري. لقد كان مندوب الوكالة اليهودية في الخمسينيات، قبل الشروع بعملية تهجيرهم قد نصحهم بحل مشاكلهم ليس بهجرتهم إلى "إسرائيل"، وإنما عن طريق التنصر والانضمام إلى الكنيسة القبطية في أثيوبيا، واليوم فهم إلى جانب أنهم أفارقة "سود البشرة" وشرقيون، فإن يهوديتهم أيضا تعتبر ناقصة في نظر المؤسسة الدينية الأرثوذكسية المهيمنة في "إسرائيل"، والتي تحتكر لنفسها الحق في تعريف من هو اليهودي، ومطالبون أيضاً فور وصولهم بالقبول بطقوس التطهير والختان، ومع ذلك وبعد اخضاعهم لهذه الطقوس يعدوّن غرباء، ومشكوك في يهوديتهم، في المجتمع الاستيطاني الأشكنازي، ويُلّقى بهم عند وصولهم في معسكرات انتقالية عدة سنوات، قبل أن يجري إسكانهم في البلدات والمدن الفقيرة، كديمونا وبئر السبع والمستوطنات الحدودية ومدن التطوير، ومن حيث مستوى الدخل، تعد هذه الطائفة أفقر الفئات في المجتمع العبري، وثمة تمييز بحقهم من حيث الإسكان والعمل والخدمات والوظائف والتعليم.. الخ، وترفض عشرات المدن والبلدات الأشكنازية إسكانهم بينهم، ولا يقبل أولياء الأمور الأشكناز أن يتعلم أبناء الفلاشة مع أبنائهم في ذات المدارس، كما وترفض المستشفيات وحدات الدماء التي يتبرعون بها، وقد أثيرت في وسائل الإعلام قضية اتلاف آلاف وحدات الدماء التي تبرعوا بها خلال سنوات، أما المهن التي يمتهنها اليهود الفلاشة في المجتمع العبري، فهي مهن بسيطة وحقيرة ويأنف الأشكناز مزاولتها، كشرطة السجون والوظائف الحكومية المتدنية، وترتفع في أوساطهم معدلات الفقر والبطالة والجريمة.

ولا يقتصر هذا التمييز العنصري الذي تمارسه الدولة الأشكنازية على الفلاشة، وإنما ينسحب على مختلف الفئات والطوائف اليهودية الأخرى، وتحديداً اليهود الشرقيين، الذين عانوا وما زالوا يعانون من الممارسات العنصرية واحتكار النخبة الأشكنازية الأوربية للامتيازات والمراكز والثروات، ويجري إقصائهم من المراكز والمواقع الحساسة والمهمة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو أمنية أو ثقافية أو أكاديمية.. الخ، لا سيّما موقع رئاسة الحكومة التي بقيت حكرا على اليهود الأشكناز. وتشير الدراسات المختلفة إلى وجود فوارق واضحة بين الشرقيين والأشكناز في مستويات الدخل والتعليم والخدمات والإسكان والصحة.. الخ، وما قاله الكاتب والمثقف "شالوم كوهين" اليهودي ذي الأصول المغربية، يلخص هذه الممارسات حين قال: (إن أقزع شتيمة يقذفوننا بها هي تذكيرنا بأننا عرب، بحيث أصبح ينتابنا شعور بعقدة الدونية بالنسبة للأشكناز).

ويتعين علينا التذكير بما قاله بعض الآباء المؤسسين للدولة العبرية، حيث قال "بن غريون": (لا أُريد لثقافة مراكش أن تكون عندنا هنا)، أو ما قالته "جولدمائير": (نحن في إسرائيل بحاجة الى مهاجرين يتمتعون بمستوى رفيع، إن لدينا مهاجرين من مراكش وليبيا ومصر وإيران وبلاد أخرى، ترجع مستوياتهم الاجتماعية إلى القرن السادس عشر)، أما "بنيامين نتنياهو" فيكفي التذكير بالقضية التي رفعها ضده وضد زوجته "سارة"، الموظف اليهودي الشرقي "مني نفتالي" مدير منزله، الذي رفع دعوى للقضاء متهماً عائلة نتنياهو بمعاملته معاملة عنصرية وإهانته مراراً، وقد قضت المحكمة لصالح هذا الموظف، وقبل أكثر من عام اتهمت موظفة يهودية شرقية تدعى "شيرا ربان"، كانت تعمل كعاملة نظافة في بيت نتنياهو الحكومي، اتهمت سارة نتنياهو بمعاملتها معاملة الجارية، ورفعت شكوى ضدها وطالبت بتعويضها عن الإهانة والضرر الذي لحق بها.

أما العرب الفلسطينيين في الداخل المحتل والذي تباهى نتنياهو أنهم ينالون حقوقهم كاملة وبالضبط كاليهود، فتلك كذبة كبرى تفندها الوقائع على الأرض، فضلاً عن مئات الدراسات الحديثة التي صدرت من جانب عرب ويهود، تؤكد على إقصاء العرب ومعاملتهم معاملة عنصرية، حيث يجري إقصائهم باستمرار وتضييق الخناق عليهم، ويعتبر العرب في الداخل الأقل دخلاً، والأقل مستوى في تلقي الخدمات والعمل والتعليم الإسكان والثقافة والصحة والحقوق، وتجري عملية مصادرة أرضهم وهم يشكلون نسبة 20% من السكان، بينما مساحة الأرض التي يحوزون عليها لا تزيد عن 3%، كما تُمنع إقامتهم في أكثر من 80% من دولة الكيان، ويتعرضون للمضايقات يومياً ذات الطابع العنصري، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في النقب هدمت دولة الكيان، ولا تزال تهدم البيوت والقرى العربية، ولا تعترف الدولة بأكثر من 40 قرية من أصل عشرات القرى العربية التي يقيم أهلها بها منذ قرون، فيما تمنح الشرعية والاعتراف بالمستوطنات الجديدة التي يقيمها المستوطنون على الأراضي الفلسطينية في الضفة.

والعالم كله يتذكر حين خرج نتنياهو في انتخابات عام 2015، لحث اليهود للخروج والتصويت له، مستخدماً دعاية غوغائية عنصرية حين قال: (العرب يتدفقون على صناديق الانتخابات فماذا تنتظروا؟!). أما عن الممارسات العنصرية اليومية التي مارستها دولة الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع طوال أكثر من 50 عاماً فهذه حدث عنها ولا حرج، ولا داعي لاستحضارها، لأنها معروفة للعالم أجمع.

لقد كذب نتنياهو كذبة كبرى عندما أنكر ممارسة "إسرائيل" عملية التطهير العرقي ضد الفلسطينيين في العام 48، وبهذا أنكر تهجير قرابة 800 ألف فلسطيني، وتدمير قرابة 530 بلدة فلسطينية، وهذه الحقيقة ساطعة كالشمس في وضح النهار ولا سبيل لإنكارها.

ادعي نتنياهو أن السلطة الفلسطينية تحكم بالإعدام على من يبيعون الأراضي لليهود، ولم يسأله أحد إن كان يستطيع الفلسطيني أن يشتري عقاراً أو قطعة أرض في الكيان أو حتى مجرد الدخول للعمل أو العلاج؟! ويزعم نتنياهو أن دولته ليست عنصرية بينما يحالف في الحكومة أحزاب تجاهر بعنصريتها ودعواتها لطرد العرب كحزب ليبرمان وحزب نفتالي بينيت.

استهجن نتنياهو بوصف دولته بدولة الأبرتهايد، ومن يرى كيف يعيش الفلسطيني في معازل بفعل الجدار والمستوطنات، سيصل إلى حقيقة مدهشة أن "إسرائيل" تفوقت على جدار الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا.

نفي نتنياهو العنصرية عن دولته هو بمثابة تأكيد لهذه الحقيقة، ولكن الغريب أن نتنياهو أطلق هذه المزاعم والأكاذيب من على منبر الأمم المتحدة، دون أن يتصدى له أحد، فإذا كانت الأمم المتحدة هي المكان الملائم لإطلاق مثل هذه الأكاذيب دون أدني احتجاج، فأين يذهب الفلسطينيون والشعوب الفقيرة لتحصيل حقوقهم، وهي ذاتها المنظمة التي دأب نتنياهو ودولة الكيان على احتقارها مراراً، وعدم الالتزام بقراراتها، والسخرية منها ومن مؤسساتها؟! فكيف يسمح لدولة لا تتخذ جهداً في إهانة الأمم المتحدة أن تستمر في عضويتها بهذا المنظمة؟! وكيف يسمح لدولة غاصبة لا تعير اهتماما للأمم المتحدة، ولا تحترم قراراتها أن تظل تحت قبة هذه المنظمة؟! ولماذا لا تتحرك المجموعة العربية لتحديد مشروع لطرد "إسرائيل" من الأمم المتحدة؟

إن "إسرائيل" التي تستغرق في فاشيتها يوماً بعد يوم، وتمارس تمييزها العنصري ليس أكثر من 6 مليون فلسطيني على الأرض فحسب، وإنما ضد ملايين اليهود أيضاً، وكذلك تشن حروبها العدوانية على شعوب المنطقة فهي جديرة بمسمى دولة تمييز عنصري وأبرتهايد، وعلى الأمم المتحدة أن تعمل على طرد هذه الدولة من أروقتها، وعلى العالم أن يتحرك لفرض عقوبات عليها، وصولاً لتفكيكها كما حدث من قبل مع نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.