عدنا لنقاوم لا لنساوم

abuali.pg_
المصدر / منظمة سجن عوفر

نجح الاحتلال الصهيوني عبر سنوات احتلاله الطويل في فلسطين تدجين الكثير من قيادات الشعب الفلسطيني بمختلف مشاربها السياسية والفكرية والتنظيمية، حيث اعتمد بشكل منهجي قائمة طويلة من وسائل الترغيب والترهيب لتحقيق غايته في تدجين هذه القيادات ودفعها للعمل ضمن السقف الذي رسمه لها في كل مرحلة معينة، إذا لم تكن مستعداً لمغادرة مربع النضال ورفع الراية والانشغالبالهم الخاصة فإن المشروع الوطني حسب حدوده الدنيا وفي الحالات التي لم تجد لها هذه السياسات الصهيونية نفعاً فقد كان مصيرها إما الاستشهاد عبر سياسة الاغتيالات الممنهجة التي دأب الاحتلال على ممارستها منذ اغتصابه لأرض فلسطين أو عبر النفي والإبعاد أو الاعتقال أو وضع القيادات المناضلة والصلبة لسنوات طويلة خلف جدران الاعتقال حيثما سمحت لهم الفرصة بذلك، وفي الحالات التي لم ينجح في إدانتهم في محاكمهم الفاشية اعتمدوا معهم سياسة الاعتقال الإداري مرة تلو الأخرى في محاولة منهم لمنع هذه القيادات المساهمة في معركة الصراع اليومي ضد الاحتلال، مادامت غير مستعدة للعمل ضمن السقف الذي رسمه الاحتلال وغير مستعدة لمغادرة ساحة المواجهة والبحث عن ذاتها بعيداً عن التنظير والتحريض بكافة أشكالها العنيفة وحتى غير العنيفة.

لا يحتاج المرء بإمعان النظر كثيراً في واقع النضال الوطني الفلسطيني منذ عشرات السنين وحتى اليوم حتى يستطيع أن يلحظ حقيقة ماذهبنا إليه من تشخيص في السطور السابقة، وهناك الكثير من القيادات الفلسطينية التي لا زالت تتحكم بالقرار السياسي والوطني ليس على مستوى أحزابها وحركاتها فحسب بل وعلى مستوى المشروع الوطني ككل وقد تعرضت وبشكل منهجي لعملية التدجين تلك حيث بدأت مشوارها الكفاحي لتحرير كامل تراب الوطنيالفلسطيني ورفعها لشعار الكفاح المسلح والمقاومة والبعض حتى كان وحيداً في مواجهة الاحتلال لتنتهي هذه الأيام بترددها حتى في تبني شعار المقاومة الشعبية وانتصارها على المقاومة الشعبية السلمية.

إن خطورة التجارب من قبل هذه القيادات لعميلة التدجين الممنهجة التي درسها الاحتلال بشكل متدرج عبر سنواته الطويلة وتخدم قائمة طويلة من رسائل الترغيب (إغراءات مادية وجهوية، امتيازات في حرية الحركة والتنقل، السفر والتجوال في العالم، وكالات وسمسرة... إلخ) أو عبر الترهيب والتهديد بالقتل والإبعاد والاعتقال ومنع السفر والمضايقات الاجتماعيةوالاقتصادية... إلخ، لا تكمن فقط في  تدجينها فحسب بل ودفعها للعمل وفق الأجندة كما يقولون إنما الأكثر خطورة هو مطالبتها بالقيام بتدجين أحزابها وحركاتها ودفعها لاتخاذ مواقف سياسية ونضالية مهادنة باعتماد سياسات تتوافق مع تطلعاتها التي تضمن بقائها على رأس أحزابها وحركاتها وفي نفس الوقت لا تتعارض للملاحقة والضغط من قبل الاحتلال الذي يملك القدرة على حرمانها من هذه الامتيازات التي تتمتع بها على حساب المشروع الوطني، لكي تتجنب دفع استحقاقات أي موقف أو فعل ثوري ونضالي لا يمكن للاحتلال التعايش معه أو قبوله.

إن التجربة العملية عبر سنوات طويلة من الاحتلال الصهيوني وفي ظل مواجهة لقوى المقاومة وقياداتها تكشف عن التطور الحاصل على هذا الصعيد في سياسة الاحتلال التدريجية وطويلة النفس على هذا الصعيد، ففي مراحل مبكرة كان يحاول بث رسائل لهذه القيادات مفادها "إذا أردتم أن تعملوا فليكن في المجال التنظيمي وليس العسكري" وبعد أن حققوا نتائج على هذا الصعيد انتقلوا لمرحلة بث رسائل مفادها تجنبوا العمل في العسكرة والتنظيم ولا مانع في أن تنشطوا فيما هو جماهيري وبعد ذلك انتقلوا للتفصيل في شأن العمل الجماهيري وهكذا.

إن نجاح الصهاينة في تدجينالكثير منقيادات النضال الوطني الفلسطيني ونجاح الكثير منهم في تدجين أحزابهم ودفعها لتبني مواقف هابطة في مقاومة الاحتلال خلق انطباع لدى الصهاينة بأنهم قد ينجحوا في تحقيق ذلك أيضاً مع الرفيق الشهيد أبو علي مصطفى عندما سمحوا له بالعودة إلى أرض الوطن عام 1999 مدركين أن نجاحهم في تدجين هذا القائد المميز والذي من المتوقع له في حين أن يقف على رأس التنظيم معروف بصلابة مواقفه والممارسات الفاشية ضد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقيادتها ليس في الوطن وحسب وعلى المستوى العربي والدولي.

وقد وجدت الكثير من القيادات الفلسطينية وبمختلف المشارب السياسية والتنظيمية كعودة الرفيق أبو علي مصطفى إلى أرض الوطن بموافقة إسرائيلية فرصة للشعور براحة النفس وكأن لسان حالهم يقول "لسنا لوحدنا من قدمنا التنازلات للاحتلال كي نعود لفلسطين عبر البوابة الإسرائيلية" فها هو أحد العناوين الأكثر صلابة وجذرية من بين قيادات الشعب الفلسطيني قد عاد مثلنا وقد صار مع الأيام يلعب ضمن سقف الاحتلال كما هو حالنا وكما يقول المثل الشعبي "ماحدا أحسن من حدا"، فيما أبدى فريق من المعارض لعودته بموافقة إسرائيلية بإدانة أو عدم تأييدها في أحسن الأحوال متزعمين بأن عودته هي بمثابة تنازل من قبل الرفيق ومدخل للمساومة مع سلطة أوسلو والاحتلال الجاثم على أرضنا،واستشهد البعض منهم وخاصة من الرفاق  بموقف الحكيم الذي أعلن رفضه العودة لفلسطين قبل أن يعود كامل أفراد الشعب الفلسطيني غير مدركين بأن لا تناقض بين موقف الحكيم المبدئي الذي يؤكد على حق العودة لكافة جماهير شعبنا الفلسطيني وبين موقف الرفيق الشهيد أبو علي مصطفى التكتيكي الذي أصر على العودة إلى الوطن ولو بموافقة إسرائيليةباعتبار أنها "فرصة من أجل مقاومة الاحتلال وجهاً لوجه من على أرض المعركة" بعد أن أغلقت بوجه المناضل الفلسطيني كل الأبواب المحيطة بفلسطين وليس عودة للمساومة ربما هذا مادفع الطرفين للأخذ بالخيار الثاني وهو المساومة.

ماكان واضحاً لهم في التجارب الماثلة أمام أعينهم أن الجزء الأعظم من قيادات القوى والفصائل الفلسطينية التي عادت إلى أرض الوطن كانت مستعدة للمهادنة والمساومة وغير مستعدة لدفع استحقاق النضال الجدي، بل وذهب الكثير منهم بعيداً في تحيز واستثمار مواقفهم القيادية سواء على مستوى أحزابهم أو على مستوى سلطة أوسلو لخدمة أهدافهم ومصالحهم الطبقية والشكلية ورغم ماسمح به الرفيق الشهيد أبو على مصطفى منذ لحظة دخوله لفلسطين بثاً على هواجس البعض وتشكيكهم بمغزى عودته بأن "عدنا لنقاوم لا لنساوم" إلا أن الكثير فهم بأن هذا التصريح للاستهلاك المحلي وهذا الاعتقاد ربما يكون مفهوماً من قبل الكثير من القيادات الفلسطينية التي أدمنت على إطلاق التصريحات النارية أمام وسائل الإعلام فيما سلوكها الحقيقي معروف جيداً لدى الاحتلال،ولهذا يترك لها المجال لتتبجح كما تريد،لكن ما هو غير مطلوب من بعض الرفاق الذين انساقوا في حينه وراء هذه التحليلات متجاهلين حقيقة الرفيق الشهيد الذى إعتاد في سيرته النضالية الطويلة باقتران القول بالفعل ومتجاهلين معدن هذا القائد الصلب والاستثنائي الذي يتواجد حيث المكان الأصعب والأكثر تطلباً للنضال والتضحية، ومتجاهلين أيضاً أن الرفيق أبو علي مصطفى عاد بقرار من المكتب السياسي.

وقد جاءت الأيام والشهور اللاحقة لتسقط هذا الاعتقاد والرهان الخاطئ حيث لم يحتاج الاحتلال الفاشل لكثير من الوقت ليكتشف عقم مراهنته على تدجين هذا القائد الجبهاوي والوطني بل والعربي الأصيل، فمع انطلاقةانتفاضة الأقصى تبين لهم بما لا يدع مجالاً للشك بأن لا عمل في تجهين هذا القائد وأدركوا متأخراً فشلهم في معرفة حقيقة هذا القائد الاستثنائي الذي لم يعد للمساومة إنما عاد لمقاومة الاحتلال وأدواته بكل مالديه من عزيمة وإصرار، فكان ردهم سافلاً وحقوداً بحجم فشلهم في تدجينه، فأوصلوا له صاروخين عبر الأباتشي الأمريكية ليضعوا حداً لحياته البيولوجية فيما مآثره البطولية وذكراه الحية باقية فينا وفي شعبنا الفلسطيني وحتى الأبد.