العيساوية بطولات ومآثر ومعاناة

العيساوية بطولات ومآثر ومعاناة
المصدر / اللجنة الإعلامية لمنظمة فرع السجون

على مدار عقود شكلت قرية العيساوية في القدس حالة استثنائية من النضال والمقاومة وقدمت نموذجاً للإصرار والتحدي ورفض الاحتلال، وفي السنوات الأخيرة تحديداً باتت تلك القرية الجسورة أزمة حقيقية لأجهزة الأمن الصهيونية فالآلاف من شرطة حرس الحدود وقوات الجيش المختلفة، لم تستطع كبح جماح شبابها الثائر والذي يشكّل منارة الهبّات والانتفاضات وعنواناً للمواجهات والاشتباك اليومي مع قوات الاحتلال في القدس.

كان على ترامب وإدارته الأمريكية المتصهينة زيارة تلك القرية الفلسطينية الأصيلة، قبل الشروع بنقل السفارة إلى القدس، لربما أعادوا النظر في مفهوم "العاصمة الأبدية" لدولة الاحتلال، فأي عاصمة لا تستطيع السيطرة على أطرافها ولا حتى على أي جزء ينغرس به أصحاب البلاد الأصلانيين العرب الفلسطينيين؟؟ إن الدرس الذي تلقنه فكرة العيساوية للعالم أجمع مفاده أن "أورشليم" المزعومة ليست سوى عاصمة وهمية مآلها الزوال وعودة القدس إلى أصحابها الأصلانيين.

فشبان العيساوية وصغارها مثّلوا النموذج الحي لمقاومة الاحتلال بإبداع ورقي وتفاني وعناد وحجارتهم ومقاليعهم وزجاجاتهم الحارقة وألعابهم النارية جعلت من تلك القرية عنواناً للفخر والفداء والتضحية، فقد قدمت تلك القرية عدداً من الشهداء على مذبح الحرية وعدد كبير من الجرحى يكاد يكون أغلب أطفالها قد أصيبوا بالأعيرة النارية أو الأعيرة المعدنية المغلفة بالمطاط، إضافة إلى عدد هائل من الأسرى فعلى مدار السنوات الماضية استقبلنا في السجون المئات من الأشبال والشبان العيساوية، الذين تعتقلهم القوات الصهيونية بالجملة، وفي إحصاء أجرته اللجنة الإعلامية لمنظمة فرع السجون تبيّن أن 68% من هؤلاء الأسرى ينتمون إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فيما 27% ينتمون إلى الجبهة الديموقراطية والباقي ينتمون إلى فصائل أخرى وهذه الأرقام تجعل من لقب القلعة الحمراء على العيساوية لقباً يعكس الواقع بجدارة، ولأن العيساوية تفوقت على مثيلاتها من القرى الفلسطينية المحاذية للقدس من حيث حجم الاشتباك والفعاليات النضالية المقاومة اتخذت أجهزة الأمن الصهيونية كل مافي جعبتها من إجراءات قمعية لفرملة هذه الحالة النضالية المميزة بعض هذه الإجراءات ترتقي لمستوى جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية بناء على القوانين والأعراف والمواثيق الدولية.

فالقانون الدولي والإنساني يحرم العقاب الجماعي ويجرّم الانتقام من السكان الآمنين، فيما كافة الإجراءات للقوات الصهيونية ضد القرية مبنية على أساس الانتقام وعقاب السكان المحليين في انتهاك فاضح للقوانين الدولية وتحت عين العالم أجمع الذي لا يحرك ساكناً.

وقد أجرى طاقم بحثي من أسرى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين استطلاع بين عدد من أسرى العيساوية تضمّن 16 رفيقاً لتوثيق تجاربهم وتوثيق طبيعة وأصناف الانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال في قريتهم منهم أسرى حاليون: سلطان أبو الحمص، يوسف عليان، وليد عليان، حكيم درباس، عيسى درباس، أحمد عبيد، علي درويش، طارق درويش، مراد محيسن، محمد محيسن، وآخرين محررين وهم: محمد رباح عليان، محمد كامل عليان، محمد موسى درباس، معاذ عبيد، علي بدر، ومؤيد بدر.

ولم نتفاجأ من كثرة الانتهاكات والتجاوزات القانونية التي مر بها هؤلاء الشبان وأهالي قريتهم العيساوية لكن الملفت هو غياب وتجاهل المؤسسات الحقوقية المحلية والدولية هذه التجاوزات التي تخالف القانون الدولي رغم أن غالبيتها موثّقة بالصورة، فعدسات كاميرا الصحفيين أو الكاميرات الثابتة للبيوت والمحلات التجارية أو تلك التي يستخدمها الأفراد قد التقطت كمية كبيرة من الأحداث والأدلة على انتهاكات قوات الاحتلال الصهيونية لكن لم تستثمر أي من هذه التسجيلات لملاحقه العدو في المحاكم الدولية لاسيما محكمة الجنايات الدولية في روما.

لقد تعدت أجهزة القمع الصهيونية مجرد قمع المتظاهرين وغالبيتهم من الأطفال حيث تستخدم الأعيرة النارية بكثافة مما أدّى إلى إصابة عدد كبير منهم حيث تنتهج وسيلة ما يسمى بالمستعربين الذين يحومون في القرية مثل الثعالب لاعتقال الشبان والاعتداء عليهم دون سبب وتلفيق لوائح الاتهام لهم، ولأن كل ذلك لم يكفِ لقمع الحالة النضالية قاموا بوضع نقاط دائمة للجيش في المناطق العلوية المشرفة على القرية لمراقبة كل حركة فيها ثم نصب الكمائن التي أدت إلى اعتقال عدد من المناضلين.

وبعد سلسلة من الاقتحامات اليومية للقوات الصهيونية التي تضمنت اقتحام بيوت بشكل عشوائي وتخريب محتوياتها والاعتداء على السكان، وإدخال العربات المحملة بالمياه المتسخة وبخراطيمها تطلق الأوساخ على بيوت السكان الآمنين، حيث اضطر كل بيت متضرر من هذه المياه المتسخة إلى الاستغناء عن مفروشات البيت جميعها وإعادة ترميم البيت بالكامل، فهذه المياه تحتوي على مواد كيماوية لا يتم إزالة رائحتها العفنة بكل وسائل التنظيف الممكنة.

ولم تستكفِ بهذه الوسائل الهمجية حيث اعتمدت قوات الاحتلال سياسة اقتحام البيوت لمجرد تخريبها والعبث بمحتوياتها وسرقة الأموال والمجوهرات، وجنود الاحتلال يتسللون إلى الحارات ويفجرون أبواب البيوت ويدبّوا الرعب في المواطنين ثم يعيثون فساداً وخراباً، ويكافئهم ضباطهم بالسماح لهم بالنهب وسلب ما يريدون، إضافة إلى إطلاق الكلاب البوليسية في الشوارع للتعدي على المواطنين.

ثم لجأت إلى أساليب جديدة لعقاب السكان منها نشر ما يسمى بموظفي بلدية القدس وتوزيع المخالفات على السيارات بحجّة عدم أهلية السيارات أو عدم الوقوف في مواقف خاصة، علماً أنه لا يوجد أماكن محددة لوقوف السيارات في العيساوية أصلاً مما يعني مخالفة جميع السيارات في المنطقة.

ولعل أبرز وسائل القمع الممنهجة، هي طرد السكان لهدم البيوت، فالعيساوية لها نصيبها من أحياء القدس من سياسة الهدم بحجة عدم الترخيص حيث تقتحم قوات الاحتلال بجرافاتها القرية في ساعات الفجر الأولى، وتخلي البيوت عنوة من سكانها دون أن يسمح لهم بإخراج المحتويات، ثم تبدأ الجرافات بتحطيم البيوت وتسويتها أرضاً وتغرّم أصحابها بمخالفات وأجرة الهدم تلك البيوت التي كلف بنائها مئات الآلاف وتحمل بين جدرانها ذكريات الطفولة وأحاديث الماضي.

وبعد فشلهم في كبح جماح الشباب الثائر صاروا يغلقون منافذ القرية ويمنعوا السكان من التنقل ومنعهم من مزاولة أعمالهم وعقابهم جماعياً وإقناعهم دون جدوى بأن مقاومة الشبان غير مجدية، ولكن حوّل السكان هذه الحالة من الإغلاق والحصار التعسفي للقرية لمسرح من التكافل الاجتماعي والتضامن الأسري.

وعلى هذا المنوال استمر مسلسل الاعتداءات وابتكرت أجهزة الاحتلال أساليب همجيّة جديدة منها إلقاء قنابل الغاز على البيوت عبر النوافذ مما أدى الى إصابة العديد من النساء والأطفال، بل وسُجل عديد من حالات الإجهاض، ثم صارت تلقي قنابل الصوت على البيوت مما يؤدي إلى احتراقها دون أي اكتراث للمواطنين وحياتهم ناهيك عن ارعاب الصغار عبر قنابل الصوت، حتى المدارس نالت نصيبها من قنابل الصوت والغاز، وقد بات المشهد مألوفاً لاقتحام المدرسة والاعتداء على الطلاب وضربهم في باحات المدرسة أو اعتقالهم وأحياناً تلجأ لإغلاق المدارس لعدّة أيّام.

وقد جرى تسجيل مئات الحالات بالاعتداء بالضرب على الشبان والأطفال بعد اعتقالهم منها، في إحدى الحالات تم نقل 25 شاباً وطفلاً إلى المستشفى للعلاج من الضرب في يوم واحد، وقد اضطرت قوات الاحتلال الصهيونية إلى إطلاق سراحهم من المستشفى دون عرضهم على المحكمة، وحالات أُخرى قد عانى منها بعض المستطلعين منهم الرفيق سلطان أبو الحمص والذي كسرت يده جراء الضرب عند الاعتقال وامتلأ جسده بالكدمات بعد اعتقاله، دون أن ينتج عن ذلك قرار من المحكمة الصهيونية بالإفراج عنه، بل مددت فترة توقفيه لمواجهة التحقيق والتعذيب مرة أخرى.

وقد أصبح حديثاً لإطلاق العنان للمستوطنين الذين يقتحمون أطراف القرية بحماية جيش الاحتلال ويعتدون على البيوت والسيارات والسكان، هذا يضاف إلى مصادرة أراضي وإخلاء بعض البنايات في القرية من أجل إسكان قطعان المستوطنين.

 هذه بعض الممارسات ضد سكان القرية، لكن هناك المزيد منها: وضع العراقيل أمام الشبان في العمل داخل "المنشآت اليهودية"، حيث غالباً ما يُرفض لأي وظيفة من سكان القرية بتوجيه واضح من أجهزة المخابرات الصهيونية، كما يتم التنكيل بسكان القرية على مختلف الحواجز لمجرد كونهم من العيساوية، أما ما يسمى بضابط المنطقة فيتجول بالقرية تحت حراسة مشددة، ويهدد المواطنين ويوزع الاستدعاءات عشوائياً على من يراه في الشارع للاستجواب والتنكيل والتعذيب.

إن كافة الإجراءات زادت من نضال المواطنين وتضامنهم، حيث لجأت مؤخراً أجهزة الأمن الصهيونية لسياسة (فرّق تسد) القائمة على زرع الفتن والخلافات عبر عملائها بين العائلات، كي تحرف أنظار المواطنين عن مقاومة الاحتلال، ويغرقوا في المناكفات والإشكاليات الداخلية.. يبدو أن هذه السياسة ناجحة في القدس، حيث يغرق المواطنون في الخلافات فيما بينهم، مما يحرف البوصلة ومجهودات العمل النضالي، خاصة في ظل غياب أي دور للسلطة وتراجع أداء التنظيمات الفلسطينية في القدس.