الهاتف النقال / بقلم الأسير شادي الشرفا

كنت في سجن عسقلان في النصف الثاني من عام 2002 عندما تم تركيب أجهزة التشويش على الهواتف النقالة لأول مرة في السجون، والتي انتشرت بها بشكل كبير الأجهزة الخلوية، وللمفارقة تم تركيب أجهزة التشويش على الاتصالات في نفس اليوم في سجن أريحا لدى السلطة، حيث أُحتُجِزَ هناك وبإشراف أمريكي بريطاني عدد من المناضلين الفلسطينيين ومن بينهم الرفيق "أحمد سعدات" أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إضافة إلى منفذي العملية النوعية البطولية لاغتيال الوزير الصهيوني "رحبعام زئيفي".

وقد نقلت آنذاك وسائل الإعلام الصهيونية أن ما يسمى بوزير الأمن الداخلي الصهيوني قد اتخذ قراره بوقف العمليات التي تنطلق من السجون –على حد تعبريه- مؤكداً أن الأسرى المحتجزين في سجن أريحا يستغلون تواجدهم هناك لقيادة الانتفاضة وتفاخر بأن الأسرى الموجودين في السجون الإسرائيلية لن ينعموا بالتواصل عبر الهواتف النقالة بعد اليوم.

كان واضحاً آنذاك -كما هو الحال اليوم- حجم التنسيق الأمني أو التعاون الأمني بتعبير أدق بين أجهزة السلطة الأمنية ونظيرتها الإسرائيلية، فأن يتم تركيب ذات الأجهزة وبنفس اليوم وبإشراف الأجهزة الأمنية الصهيونية يحمل دلالات خطيرة على عمق التنسيق واستطاعته وانعدام السيادة والدور الوظيفي للسلطة وهذا الموضوع استفاض في نقاشه العديدون.

وما أنا بصدد نقاشه هو قصة الهواتف النقالة وأجهزة التشويش على اتصالات الأسرى والتي جاءت بعد الفشل الذريع لإدارة مصلحة السجون في اجتثاث ظاهرة انتشار الهواتف النقالة في السجون رغم الإجراءات المكثفة التي اتخذت ومازالت تتخذ بحق الأسرى للحد من هذه الظاهرة.

وحكاية الموبايل في السجون تبدأ في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي حيث استطاع الأسرى إدخال جهاز الاتصال الوحيد في سجن "نفحة" لأول مرة عندما كانت هذه الأجهزة غير معروفة لدى أغلب الناس، كان الجهاز كبير للغاية  أكبر من جهاز "بريزما" المعروف ومن الجيل الأول للاتصالات، وقد كشفت الأجهزة الأمنية عن وجوده عندما رصدت مكالمة هاتفية للوفد المفاوض في "طابا"، وقد جن جنونها لهذا التطور لذا أشرف جهاز الشاباك نفسه على التفتيش عن الجهاز في غرف سجن "نفحة" دون جدوى، حيث مازال الجهاز الأول مدفون في مكان ما في "نفحة" منذ أكثر من عقدين.

ولم يكن هذا الجهاز معروف لدى الأسرى، حيث اقتصر استخدامه على بضعة أشخاص من قيادة الحركة الأسيرة للمسائل الضرورية فقط، ثم في عام 1996 استطاع الأسرى "اللبنانيون" من "حزب الله" تهريب جهازين إلى سجن "عسقلان" حيث تم استخدامه للتواصل مع الحزب إضافة للتواصل مع أهالي الأسرى اللبنانيين لاسيما أنهم محرومون من الزيارة، ولم يعلم عن وجود هذه الأجهزة أي من قيادات فصائل العمل الوطني آنذاك حتى وضعت إدارة مصلحة السجون يديها عليهم عام 1998، وكانت مفاجأة كبرى لدى الأسرى وحدث كبير له تداعياته، خاصة بعد الإجراءات المذلة التي اتخذتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ضد الأسرى من تفتيشات يومية ومذلة تضمنت التفتيش العاري لجميع الأسرى في سجن "عسقلان".

وعلى أثر ردة الفعل الجنونية لإدارة مصلحة السجون ضد الأسرى اتخذت قيادة الحركة الأسيرة قرارا ًبامتصاص الهجمة المسعورة من قبل الإدارة وتحريم الأجهزة الخلوية ومحاسبة أي أسير يخالف هذا القرار.

لكن هذا القرار المستعجل لم يتم بناؤه على أسس موضوعية، حيث أن أصحاب القرار لم يتذوقوا طعم التواصل مع الأهل ولم يشعروا بالملموس أهميتَه، لذا لم يصمد هذا القرار طويلاً، ففي عام 1999 وبعد عام واحدِ فقط امتلأت السجون بالهواتف النقالة بدءَا من سجن "شطة" فـ"عسقلان" ثم "نفحة" وصولاَ لمعتقلات مثل "مجدو" و"النقب".

وعلى مدار هذه السنوات انتهجت إدارة مصلحة السجون سياسة التفتيشات اليومية المذلة خاصة في ساعات النوم للأسرى للبحث عن الهواتف النقالة، وبعض هذه التفتيشات كانت تستغرق أكثر من 12 ساعة متواصلة مما أرهق السجانين وأشعرهم بعدم جدوى إجراءاتهم لأن الأسرى يبتكرون مخابئ لا تخطر في بال أحد.

ثم شكلت إدارة السجون وبالتنسيق مع ما تسمى "وزارة الأمن الداخلي" وبميزانيات ضخمة وحدات خاصة لذلك منها وحدة "المتسادا" القمعية ووحدة "درور" ووحدة "اليماز"، وكلها وحدات همجية معروفة بتنكيلها بالأسرى، ولأن الأسرى لديهم عدة طرق لتخبئة الهواتف النقالة انتهجت تلك القوات سياسة التفتيش العاري بطريقة ممنهجة لإذلال الأسرى ولإشعارهم بأن استحقاق التواصل الهاتفي سقيم وغير مجدٍ.

وبعد استبسال الأسرى في مقاومة التفتيشات الليلية والتفتيش العاري المذل ابتكرت الإدارة وسائل جديدة لمحاربة التهريب منها استخدام كاشف المعادن اليدوي، ثم تركيب أجهزة كشف معادن كبيرة للأمتعة مثل التي تستخدم في المطارات، وبعدها قامت بتركيب بوابات الكترونية كاشفة عن المعادن لمنع تهريب الهواتف داخل السجون.

وليس سبب أن الأسرى كانوا يخبئون الأجهزة في أحشائهم الأمر الذي فرض على إدارة السجون شراء أجهزة يدوية جديدة للكشف عن المعادن تستطيع رصد الموجود في الأحشاء، الأمر الذي استطاع الأسرى التغلب عليه عبر تغليف الأجهزة بمواد خاصة تمنع اكتشافه، بالإضافة لطرق أخرى لست بصدد كشفها للضرورات الأمنية.

كما استخدمت أجهزة الاستخبارات السجون "العملاء" لكشف أماكن تخبئة الأجهزة، لذا صار الأسرى يعتمدون طرق أكثر سرية في تخبئة الهواتف منها نظام "الإخلاء" أي إفراغ الغرف من الأسرى ليتكفل أحد الأسرى بتخبئة الأجهزة دون معرفة باقي الأسرى بالمخابئ حفاظاً على سلامة وأمن الأجهزة.

واستمرت سياسة البحث عن الأجهزة بهوس كبير لدى ضباط الجنود فكانت إحدى الطرق المعمول بها هي زرع كاميرات مخفية وأجهزة تنصت داخل غرف الأسرى في انتهاك واضح للقانون الدولي وحتى الإسرائيلي المتعلق بخصوصية الفرد، وقد استطعنا الكشف عن عدة كاميرات وأجهزة تنصت مجهرية صغيرة الحجم ودقيقة للغاية مزروعة في جدران الزنازين وسقوفها وفي أماكن أخرى لسنا بصدد التطرق إليها.

وضمن الإجراءات التي اتخذتها إدارة مصلحة السجون إغلاق الهواتف النقالة وهو ما نسميه "التشفير" حيث يتم رصد المكالمات الخارجة من السجون ويتم عبر تشفير الشرائح والأجهزة يتحول الجهاز إلي قطعة من معدن لا فائدة منها.

أما الإجراء المناسب لكافة المراحل، في عام 2002، فهو أجهزة التشويش والتي تلغي الخدمة وتضعف الإرسال وتمنع التواصل، وأذكر اللحظات الأولي لتركيب أجهزة التشويش عندما كنت في سجن "عسقلان" عام 2002 حيث شعر الأسرى بأن عالمهم قد انتهى، خاصة وأن نسبة كبيرة من الأسرى محرومون من زيارة أهاليهم، ولم يرونهم منذ سنوات، والهاتف النقال هو الوسيلة الوحيدة للتواصل معهم والتواصل مع العالم الخارجي.

ثم بدأ الأسرى باكتشاف نقاط الضعف لدى هذه الأجهزة مما حذا بالأجهزة الأمنية الصهيونية استبدالها بأجهزة أكثر تطوراً، وحقيقة الأمر أن أجهزة التشويش قد تغيرت أكثر من خمس مرات وما زالت الإدارة تعمل على تطويرها لتحقيق حلمها بعيد المنال بوقف تواصل الأسرى مع أهاليهم.

ومن الجدير ذكره أن عددًا كبيرًا من الأسرى يعانون من صداع شديد خاصةً بعد تركيب أجهزة التشويش الأخيرة والتي يبدو أنها تؤثر صحياَ على الأسرى هذا إلى جانب ارتفاع عدد الأسرى المصابين بالسرطان في السنوات الأخيرة والتي قد يكون مؤشر على خطورة أجهزة التشويش المستخدمة، وبدون شك فإن هذه المسائل بحاجة إلى فحص لدى مختصين وباحثين لمعرفة ودراسة التأثيرات الصحية التي تنتج عن أجهزة التشويش، في كل الأحوال ما يعزينا ويخفف عنا هو أن أي مرض قد يصيبنا من هذه الأجهزة سيكون للسجان نصيب منها بدون شك رغم الفارق الكبير في التعرض لأشعة هذه الأجهزة حيث الأسرى يعيشون 24 ساعة في ظل أجهزة التشويش فيما الجنود يتعرضون لهذه الموجات نصف يوم ثم يرحلون.

لقد أدرك الأسرى أهمية الأجهزة النقالة وبعدها الإنساني الكبير، وفي المقابل أدركت أجهزة الأمن الصهيونية أهميتها لتتبع المناضلين والدخول في تفاصيل حياتهم وهمومهم اليومية، ومع ذلك فإن الصراع بين الأسرى والسجان ولعبة القط والفأر حول الأجهزة ستستمر طويلاً خاصة بعد التطور التكنولوجي الكبير ونوعية الأجهزة الحديثة صغيرة الحجم والتي يسهل تخبئتها عن أعين السجانين.