معجزة غزة المستعصية على جبروت الهالة العسكرية الصهيونية

عبارة "اسحاق رابين" التي قالها قبل قرابة الثلاثين عاماً حين تمنى أن يصحو من النوم ويجد البحر قد ابتلع غزة، يكاد يعرفها كل فلسطيني وإسرائيلي وبقدر ما تنطوي هذه العبارة على كراهية وحقد دفين على قطاع غزة ليس لدى "رابين" وحسب، وإنما لدى مجمل القادة والجنرالات وعموم المجتمع الصهيوني، بقدر ما تعبر عن عجزاً صهيونياً أمام المعجزة الغزاويّة في مقارعة الدولة الاحتلالية منذ نشأتها وحتى هذه اللحظة.

لقد احتشد أبناء القطاع عام النكبة إلى جانب قوات الجيش المصري للدفاع عن غزة ومنعت العصابات الصهيونية من السيطرة على القطاع، ووقع العبء الأكبر على أهالي غزة في احتضان مئات الألوف من المُهجّرين عام النكبة ومنذ ذلك الحين تعاهد أبناء غزة على مقاومة وتهديد دولة الاحتلال وهي لا تزال في مهدها، حيث خرجت عشرات العمليات الفدائية ضد معاقل إسرائيلية وهو ما دفع الدولة الاحتلالية بالقيام بعشرات العمليات الانتقامية، والتي خلفت عدداً من المجازر بحق المدنيين لا تزال ماثلة في الذاكرة والتاريخ أبرزها مذبحة البريج عام 53 ومذبحة خان يونس عام 55 فالمقاومة في غزة لم تهدأ يوماً واحداً .

وبعد احتلال القطاع عام 67 انفجرت المقاومة منذ اليوم الأول وظهرت مئات الخلايا العسكرية التي أقضّت مضجع العدو، أبرزها ظاهرة القائد "محمد الاسود" المعروف بـ"جيفارا غزة" في بدايات السبعينيات والتي شكلت تحدياً بارزاً للاحتلال ونموذجاً للمقاومة العنيدة حيث أطلق وزير الحرب الصهيوني حينها موشيه ديان تصريحه المشهور، نحن نسيطر على قطاع غزة نهاراً بينما يسيطر عليه الفدائيون ليلاً.

أما قائد المنطقة الجنوبية في حينه "ارئيل شارون" وصفته الهمجية، أصدر أوامره بتدمير مساحات واسعة من مخيمات غزة وفتح طرف واسعة في قلبها بهدف القضاء على المقاومة المسلحة وانتقاما من الجماهير التي كانت تحتضن المقاومة وتوفر لها إمكانيات الصمود والبقاء، حيث تدل عن يأس في مواجهة المقاومة الباسلة.

ورغم بطش الاحتلال وسفكه اليومي للدماء لم تهدأ حالة المقاومة بكافة الوسائل المسلحة والشعبية والمدنية لأن الشعوب المكافحة في سبيل حريتها لا تهدأ بأي وسيلة، فقد أبدعت غزة منذ ثلاثين عاماً وفجرت الانتفاضة الأولى.. انتفاضة كانون الأول من عام 87 عندما دهس مستوطن بشكل متعمد 4 عمال فلسطينيين لينفجر الغضب الفلسطيني بانتفاضة امتدت لكافة مدن ومخيمات القطاع، ولم تلبث أياماً إلا وامتدت لتشمل مدن ومخيمات وقرى الضفة، حيث فجر شعبنا انتفاضة شعبية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشعوب لتستمر لـ7 سنوات شكلت مفخرة لشعبنا ومقاومته الحضارية والمشروعة أمام العالم، وفضحت هذه الانتفاضة ممارسات الاحتلال ومزاعمه الأخلاقية والحضارية وتنامت حركة التأييد العالمي لنضالات شعبنا في كافة أرجاء المعمورة.

 وطوال سنوات الانتفاضة طورت غزة أساليبها في مواجهة الاحتلال، ووجدت المجموعات العسكرية التي شكلت تحدياً للاحتلال، من خلال مجموعات "فصائل المقاومة"، حيث طورت مجموعة أساليبها في المقاومة أبرزها العمليات الاستشهادية وملاحقة العملاء، وشكلت هذه المقاومة بشقيها الجماهيري والكفاحي تحدياً كبيراً للاحتلال ما قبل  اتفاق أوسلو وما بعده، أما المعجزة الحقيقية التي صنعتها غزة فقد بدأت قبل 18 عاماً مع انطلاق الانتفاضة الثانية حينما شرعت غزة بتطوير أدواتها المقاومة، بدءاً بقذائف الهاون ومروراً بالصواريخ وصولا إلى الصواريخ بعيدة المدى والطائرات بدون طيار والأنفاق، إلى أن استطاعت المقاومة الباسلة خلال 5 سنوات من التضحيات الجسام والعمليات البطولية تحرير القطاع وإرغام شارون على تفكيك المستوطنات والهرب، وفرار جيشه يجر أذيال الفشل. ولم تكتفِ المقاومة بتحرير القطاع بل واصلت غزة في تحمل العبء الأكبر في عمليات المقاومة والتصدي لممارسات الاحتلال وتحملت المجازر والتوغلات والقصف والتدمير وتمكنت من أسر الجندي "شاليط" ورفضت بعناد الرضوخ أمام ضغوط العدو وشروطه ومجازره، وأصرت المقاومة على صفقة تبادل لم تثنها الحروب والحصار والتجويع عن ذلك، حيث استمرت عملية أسر هذا الجندي 5 سنوات ونصف إلى أن رضخ العدو وأبرم صفقة تبادل مع المقاومة، وبهذا أرغمت غزة "إسرائيل" بكل جبروتها على أن تنصاع وتعقد صفقة تبادل تحرر على أثرها أكثر من 1000 أسير.

ولم تستسلم غزة عندما فرضت عليها "إسرائيل" حصاراً مشدداً عام 2007، ورفضت الإذعان لشروط الاحتلال في حدث غير مسبوق في التاريخ حفر أهالي غزة ومقاومتها، آلاف الأنفاق أوصلت من خلالها السلاح والغذاء والدواء رغم أنف الاحتلال، وكانت هذه الأنفاق تشهد على إبداع شعبنا وعبقرية الإبداع والصمود والإصرار على المقاومة. ورغم الحصار والتجويع الشامل تصدت غزة ببسالة ل3 حروب دموية متتالية، وكان آخرها حرب عام 2014 التي استمرت 50 يوماً وخلالها تمكنت المقاومة من الصمود وقتل وأسر عدداً من الجنود والضباط وتهديد معظم المدن الصهيونية، وهذه حرب لم تألفها "إسرائيل" في حروبها ورغم جسامة التضحيات لم تساوم غزة على إعادة الإعمار وأصرت على التمسك بالحقوق الوطنية، وبهذا نرى أن المقاومة الغزاوية معادلة صعبة على الاحتلال وباتت غزة عقدة مستعصية عليه، وعلى الجنرالات ورؤساء الأركان ووزراء الحرب ورؤساء الحكومات، ولم تفلح حتى الآن كل ما طورته "إسرائيل" من منظومات دفاعية في الجو والبر والبحر، ورغم امتلاكها لأحدث الإمكانيات العسكرية والتكنولوجية للحد من إرادة المقاومة وزعزعة إيمان شعبنا وثقته فيها.

وغزة البالغة مساحتها 365 كلم مربع وعدد سكان تجاوز الملونين نسمة وكثافة سكانية هي الأعلى في العالم، بلغت نسبة التلوث للمياه فيها إلى 97% وبلغت معدلات الفقر والبطالة أرقاماً قياسية، وفي مساحة ضيقة تفتقد للتضاريس الجبلية والغابات، وحصار بحري وبري وجوي ومؤامرات، ابدعت غزة في صمودها وتكيّفت مع ظروفها وقاومت ولا زالت تقاوم، وهذا الشكل من المقاومة في ظل ظروف معقدة كالسابق ذكرها، لا يمكن فهم ما يجري وقراءته إلا كمعجزة حقيقية، برهنت على عبقرية أهل غزة وصمودهم الأسطوري ومخزونهم الكامل في النضال، والاستعداد العالي للتضحية. أما ما أبدعته غزة مؤخراً، جاء على شكل مسيرات جماعية مصممة على حق العودة، ولدت من رحم هذه المسيرات ظاهرة الطائرات الورقية والبالونات الحارقة المستمرة منذ خمسة شهور، بحيث شكل هذا الشكل المقاوم تحدياً وإزعاجاً كبيراً لدولة الاحتلال، ولم تجد أي حل لهذه المشكلة، وارغمت العدو أن يفكر مرات ومرات قبل أن يشن حرباً جديدة على القطاع وها هي دولة الاحتلال تقف عاجزة اليوم أمام غزة الصامدة والشامخة، ولا تملك حيالها سوى إطلاق التهديدات والتصريحات، التي تنطوي على هزيمة وعجز وقلة حيلة. وفي العودة لعبارة رابين التي يرى في غزة معضلة كبيرة يتمنى لو يصحو ويجد البحر قد ابتلعها ولن يجد وسيلة للتخلص من غزة سوى بالتمنيات والأحلام، لأن غزة شكلت عقدة مستعصية ونقطة ضعف للدولة العبرية، وها هي بكل جبروتها وقوتها العسكرية تقف عاجزة حائرة ولا يملك قادتها سوى إطلاق التصريحات العدائية الفارغة.

لقد شكلت غزة عقدة لرابين فسارع بتقدميها للسلطة بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وشكلت عقدة لشارون فسارع لتفكيك مستوطناته والفرار تحت ضربات المقاومة، وشكلت عقدة لـ "أولمرت" التي انتصر على رمالها وها هي تشكل عقدة لنتنياهو وليبرمان اللذين يقفان بعجز ولا يملكان إيجاد حل لهذا الاستعصاء فما هي خيارات العدو إزاء معجزة غزة ؟ خيار إعادة احتلال القطاع؟ خيار غير وارد لأن كلفته السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والبشرية باهظة الثمن. أم خيار تسليمها لمصر؟ وهذا خيار غير وارد لأنه مرفوض مصرياً وفلسطينياً. أم خيار إبقاء الحال على ما هو عليه من حصار وتجويع وقصف وقتل؟ وهذا أيضا خياراً لا يمكن أن يستمر لأن المقاومة أثبتت نجاعتها، وأن شعبنا لا يستسلم وهو مصمم على الحرية ونيل حقوقه كاملة.

باختصار.. لقد فشل الحصار في تركيع غزة، وفشلت الآلة العسكرية الجبارة في كسر المقاومة وإخضاعها، كما فشلت في كافة المؤامرات، وتحطمت على صخرة صمود أهالي غزة ومقاومتهم، ولن يكون مصير هذا الحصار سوى الانتصار بأن تسلم "إسرائيل" لشروط المقاومة.

مسئول فرع  الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين  في سجون الاحتلال، كاتب أديب فلسطيني.