بعد انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي إلى أين يتجه الصين؟

دراسة بقلم القائد أحمد سعدات... "بعد انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي إلى أين يتجه الصين؟"

المصدر / مركز حنظلة للأسرى والمحررين

دراسة بقلم الرفيق الأمين العام

      أحمد سعدات

    14 يناير 2018 

بعد انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي إلى أين يتجه الصين؟

مقدمة:

تعتبر الصين اهم دولة نامية في العالم وهي تقود النمو الاقتصادي العالمي بما لها من تأثير ملموس تجلى خلال العقود الثلاثة منذ تسعينات القرن 20 حتى الآن، وقد جذبت الانتباه خلال العقد الأخير للدور الذي احتلته  في الاقتصاد العالمي، في حين مازالت المراكز الرأسمالية تعاني من تداعيات الازمة المالية والاقتصادية العالمية التي انفجرت في سبتمبر 2008، بحيث باتت الصين موضع اهتمام مختلف التيارات والمدراس الفكرية والسياسية والاقتصادية في العالم، فهي من اهم المنافسين اقتصاديا  للإمبريالية الأميركية، وتشكل نواة القطبية التعددية الجديدة الاخذة بالتشكل مع حلفائها في مجموعة بركس وخاصة روسيا، عدا عن كونها نموذجا اقتصاديا مختلفا عن النماذج السائدة عالميا.

 في هذه الدراسة، توخينا استعراض خصائص تطور هذه الدولة بعد رحيل القائد التاريخي ماو تسي تونغ، ورؤية قياداتها لحاضرها ومستقبلها، بعد انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، الذي انعقد في 18 تشرين الأول 2017، وحظى باهتمام وتغطية إعلامية غير مسبوقتين.

 فبعد قرابة أربعة عقود من انطلاقة " مسيرة الإصلاح" وستة عقود من إطلاق الزعيم الشيوعي " دينغ شياو بينج " مقولته الشهيرة " ليس مهماً أن يكون لون القط أبيضاً أم أسوداً ما دام يأكل الفئران" تقف الصين اليوم على أعتاب تحقيق قفزة نوعية يتوقع منها المراقبون والخبراء الدوليون أن تصبح الصين الدولة الأولى اقتصادياً مع حلول منتصف هذا القرن.

كما تحتل اليوم مقولة " المجتمع الاشتراكي ذو الخصائص الصينية" الموقف الأول من حيث الاهتمام في أواسط اليمين واليسار على حد سواء؛ فلقد كانت تجربة البناء والتنمية في الصين مثيرة للجدل داخلها وخارجها عقب انتصار الثورة الديمقراطية الجديدة، كما أسماها " ماوتسي تونغ".

 فالحرب الثورية والتحرير وتوحيد الصين بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، وتحوّل الجدل إلى تناقض مستعصي حول عبارة " بينج" التي أطلقها عام 1957 أسس للثورة الثقافية التي انطلقت عام 1966، دفع فيها ثمناً باهظاً أقصاه من الحلبة السياسية أكثر من عقد حتى أعيد له الاعتبار في النصف الثاني من السبعينيات بعد رحيل " ماوتسي تونغ" وخليفته " هوا جيو فينج " واعتقال وتصفية نفوذ ما سُمي " عصابة الأربعة" التي تزعمتها زوجة الرئيس " ماو" وحملت مسئولية "أخطاء الثورة الثقافية".

على أي حال، إن ما يميز تجربة الحزب الشيوعي الصيني، يتجلى في الاهتمام البالغ بالجانب النظري كما عبر عنه قائد الثورة ماوتسي تونغ ، ورؤساء الدولة والحزب من بعده وأهمهم "دينغ شياو بينغ" و"زيمين" وصولاً إلى الرئيس الحالي "شي جين بينغ" ، إلى جانب الاهتمام –بدرجات متفاوتة- بالماركسية ومنهجها وتطبيقها على الواقع الصيني في إطار الاشتراكية الصينية.

وقد رافق هذا الاهتمام ، بناء خطط وبرامج العمل على رؤية نظرية تحاول حل التناقضات العملية الثورية بسماتها الملموسة الواقعية التي تأخذها أشكال حركتها، ولم تكن هذه الميزة خاصة بحقبة "ماو" فقط، إذ أن تجربة الإصلاح بمراحلها المتلاحقة –بعد رحيل القائد الثوري ماو- استندت إلى رؤية نظرية غير منفصلة عن رؤية " بينج"، بدأت بمقولة " الفئران واقتصاد السوق الاشتراكي والتمثلات الثلاث[1] للرئيس " جيانغ زيمين" والمجتمع الاشتراكي المتناغم للرئيس " هوجين تاو" وأخيراً المجتمع الاشتراكي ذو الخصائص الصينية، كما امتازت تلك الرؤية، بعلاقة الحزب الشيوعي بالجماهير التي لم تنقطع صلاته بها في جميع المراحل التي مرت بها الصين، وإن ترهلت سماته الداخلية في بداية المرحلة الثانية من الإصلاح حتى عام 2002 بداية ولاية الرئيس " هو جينتاو".

 واليوم تقف الصين بين صفوف القوى الاقتصادية العظمى دولياً، ويطمح الحزب والرئيس " شي جين بينغ" بأن تكون على رأس هذه القوى في منتصف هذا القرن.

التجربة الصينية الحديثة بين الاشتراكية والرأسمالية:

 ترتفع حمى المناظرات بين مؤيد ومعارض، بين متحمس ومراقب، وبين الحذر من الخطر الصيني القادم كما تعبر عنه الامبريالية الأمريكية.

 ويأخذ الجدل بين القوى اليسارية الماركسية طابعه الأكثر إثارة، فهنالك من حسم رؤيته حول مسارها المتسارع نحو التحّول إلى بلد رأسمالي وإن كان بطربوش " ماركسي اشتراكي"؛ انطلاقاً من أن جوهر التطور الاقتصادي الاجتماعي في الصين قد حسم باعتبار اقتصاد السوق ومفاهيمه القوة المحركة لهذا الانطلاق، قاطعين الشك باليقين بأن وجود القطاع العام مهما كانت حصته في العملية الجارية ليس جديداً على تجربة قيد التحّول إلى الاشتراكية، وإن التجربة الصينية نسفت من حيث المبدأ ممكنّات هذا التحّول بشرعنة الملكية الخاصة الرأسمالية الصينية والدولية كمكون من مكونات  علاقات الإنتاج.

وهناك من اجتهد بأن الماركسية ليست أقانيم جامدة، فهنالك جوهر منهجها الجدلي العلمي، كما أن الاشتراكية ليست مجرد نصوص أو كتالوج معلب لحين الاستخدام، كما أن شرط نجاح الرؤية العلمية، يشترط الأخذ بالخصائص التاريخية التي تمر بها تجارب عملية البناء في هذا البلد أو ذاك، وما ينطبق على الاشتراكية جسدته عملية التحوّل إلى الرأسمالية الأوروبية في عصر سابق، فالأشكال الملموسة لم تكن متطابقة وإن توحدت وتجانست من حيث الجوهر، فليترك للصين تجربتها النوعية والمدى الذي تحتاجه فالعبرة في الخواتيم.

أما الرأي الثالث فمتحمس ويرى بالتجربة الصينية المعاصرة ذروة الإبداع الخلاق المسترشد بالماركسية ومنهجها الجدلي، وتحرير للفعل وتحديد لصوابية المنهج المنسجم مع القراءة الواقعية لتناقضات الكون في مرحلة العولمة الرأسمالية وطابعها الملموس في الواقع الصيني واحتياجات التنمية المطلوبة تاريخياً.

واللافت للنظر في الرؤية النظرية الصينية لتجربة الانفتاح تأكيدها على التمسك بمقولات ومفاهيم الماركسية واللينينية والماوية باعتبار أن الطريق الجديد –من وجهة نظرها- يشكّل قفزة نوعية أحدثته مجمل الرؤى النظرية الماركسية السابقة في سياق تطورها وتجديدها من خلال الدور القيادي المركزي للحزب الشيوعي في تحقيق الأهداف التي تحققها الخطط الخمسة وفق المبادئ اللينينية التي تشكّل جوهر النظام الداخلي للحزب.

كما أنهم وعبر المراحل التي قطعتها عملية الإصلاح ، يؤكدون على متابعتهم وتجاوزهم للسلبيات الناجمة عن اعتماد اقتصاد السوق كأساس من عملية التنمية وتحقيق أهداف الإصلاح.

فهل تتحقق نبوءة الزعيم " دينج رائد الإصلاح في هذه التجربة، أم أن الزمن تجاوز إمكانية خروج الصين من عنق الزجاجة وتحقيق الحلم الاشتراكي ورسالته الأممية الإنسانية باتجاه تكريس رأسمالية الدولة؟، وهل ستتجاوز الصين وحكمائها المثل الشعبي الدارج القائل" بأن دخول الحمام مش زي خروجه؟. خاصة وأن القط الرأسمالي متوحش ما دامت مخالبه وأسنانه حادة يفتك بما يصطاد!".

الإجابة على السؤال الرئيسي وعدد من الأسئلة التي تطرحها التجربة الصينية عملية تحتاج إلى قراءة تلخصها النظرية وحصاد نتائجها المحقق على الأرض، كماً ونوعياً.

الإطار التاريخي للإصلاح الاقتصادي كما طرحته وثائق الحزب الشيوعي الصيني:

تنمية الاقتصاد الوطني ( كما هو منصوص عليه في كتاب الصين إصدار دار نشر باللغات الأجنبية، الطبعة الأولى، عام 2007، ص 91)، يوضح الكتاب ما يلي:

"قبل تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 كان الاقتصاد الوطني في غاية التخلف، وصارت الصين اليوم إحدى الدول الاقتصادية الكبرى ذات الطاقة التنموية الكاملة في العالم. فمستوى معيشة الشعب ككل وصل إلى مستوى رغيد، وبعد دخول القرن الحادي والعشرين عززت وحسنت الحكومة الصينية التنسيق والسيطرة الكلية على الاقتصاد الوطني وحافظت على نمو مستقر وسريع، وفي عام 2006 وصل الناتج المجلي الإجمالي إلى 2.940,7 مليار يوان بزيادة 10,7% عن العام السابق".

ويضيف الكتاب " تحقق نمو الاقتصاد الصيني عبر تنفيذ الخطة الخمسية، فلقد نفذت الصين تسعة خطط خماسية من 1953 إلى  2000 مما أرسى أساساً تنموياً متيناً للاقتصاد الصيني أما الخطة الخمسية العاشرة التي نفذتها الصين بين عامي 2001 و2005 أحرزت نجاحاً مدهشاً وقفزت بقوة الصين إلى مركز الصدارة في العالم".

ويلاحظ أن الناشر يتحدث عن تتابع الخطط التنموية الخمسة وكأنها جاءت في سياق منسجم بعيداً عن أي صراع على قاعدة أو تحّولات جرت في مضمون النظام الصيني.

ويشدد الكتاب على الخطه الخمسيه الحادية عشر كنقطة تحّول جديدة ونوعية، حيث يرى أن هذه الخطة المنفذة ابتداءً من عام 2006 هي خطة عظيمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والوطنية الصينية في السنوات الخمس المقبلة ( 2006-2010) .

وحول إصلاح النظام الاقتصادي يبين الكتاب "أن إصلاح النظام الاقتصادي من أهم موضوعات الإصلاح والانفتاح، فيشير إلى أن عام 1978 بدأ اصلاح النظام الاقتصادي أولاً من الريف، وفي عام 1984  توسع من الريف إلى المدن، وفي عام 1992 بعيد تجربة الانفتاح والإصلاح لبضعة عشر سنة قررت الحكومة الصينية إقامة نظام " اقتصاد السوق الاشتراكي بالاستناد إلى أسس ومقومات ومستويات إصلاح النظام الاقتصادي الصيني المحدده فيما يلي:

-      التمسك بمبدأ اعتبار اقتصاد الملكية العامة قواماً والتنمية المشتركة الاقتصادية المتنوعة لإنشاء نظام المؤسسات الحديثة التي تتواكب مع متطلبات اقتصاد السوق.

-      إنشاء نظام السوق الموحد المنفتح في عموم البلاد.

-      تحقيق دمج السوق المحلية بالسوق الدولية لدفع التوزيع الأمثل للموارد.

-      تعزيز صلاحية الحكومة في إدارة الاقتصاد، وإقامة نظام التنسيق والسيطرة الكلية المتكاملة.

-      تقنين الضمان الاجتماعي المتطابق مع أحوال الصين وسكان الريف والمدن لدفع التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي.

وغني عن القول ان نجاح الاقتصاد الصيني يبدد كافة المزاعم المعادية لدور الدولة في الاقتصاد، وأسقط المقولة الغربية القائلة بان اقتصاد السوق المستند الى الحرية المطلقة لرأس المال هو وحده المؤهل في تحقيق تراكم ونمو اقتصادي، فالاقتصاد المختلط بقيادة الدولة " النموذج الصيني" ابهر العالم بمعدلات نموه المرتفعة وقدرته ليس على الصمود في وجه الازمة المالية والاقتصادية وحسب، بل وتقديم العون والمساعدة لاقتصادات امريكا واوروبا للخروج من الازمة.

كما انتصرت الصين بفضل قيادة الحزب على الفقر، فقد خرج خلال 30 عاما 700 مليون صيني من تحت خط الفقر، وتخطط الحكومة الصينية في إخراج 40 مليونا من خط الفقر خلال الثلاث سنوات القادمة بمعدل 20 مواطن كل دقيقة، وفقا لما أعلنته وكالة أنباء شينخوا في 25 أكتوبر 2017 .

 فقد أطلقت الصين صندوقين بقيمة 225 مليار يورو للاستثمار في كل من الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي، للمساهمة في إنعاش الاقتصاد الغربي، كما تعتمد الولايات المتحدة منذ سنوات على شراء الصين لجزء هام من سندات الخزينة. 

لقد نجحت الصين كدولة نامية بإنجاز مشروعها التنموي، والتحول من دولة مستهلكة للمنتجات الغربية الى دولة مصدرة، مستفيدة من سياسة الانفتاح والعولمة الرأسمالية، هذه السياسة التي صممت لفتح أسواق الدول النامية للمنتجات الغربية، أصبحت تشكل عبئا على هذه الدول، واخذت بعضها وخاصة الولايات المتحدة التمرد على منظمة التجارة العالمية والعودة الى السياسة الحمائية بسبب الضرر الاقتصادي الذي طالها من انسياب السلع الصينية اليها، والعجز التجاري المتفاقم مع الصين.

كما أن سياسة الصين عكست احدى مظاهر ازمة العولمة الرأسمالية، التي يمكن الاستفادة من تناقضاتها وخاصة بعد تشكل مجموعة بركس بقيادة روسيا والصين، التي وفرت مناخا سياسيا وشراكة حقيقية للدول النامية التي تتمتع بإرادة سياسية لبناء اقتصاد وطني.

فالصين معنية في الاستفادة من فوائضها المالية الضخمة، بتمويل مشاريع استثمارية وتقديم الخبرات، بقدر ما الدول الفقيرة معنية بتحقيق تنمية اقتصادية، فالاقتصاد الصيني اليوم يمثل –في رأينا- نموذجا ثالثا في العالم، فهو لا ينتمي للاقتصاد الرأسمالي الليبرالي المعروف في الدول الغربية، كما انه ليس نظاما اشتراكيا وفق النموذج السوفييتي سابقا، فقد حافظت الصين خلال انفتاحها على الاقتصاد العالمي على اقتصاد موجه، وقطاع عام يتحكم في معظم الموارد الوطنية للصين، ومع ذلك تم اطلاق المبادرات الفردية والخاصة، وفتح الابواب على مصاريعها للاستثمارات الاجنبية، وحافظ الاقتصاد الصيني على نمو مرتفع خلال العقود الثلاثة الماضية، ويعتبر نموذجا يحتذى لنجاح الاقتصاد الموجه لتحقيق التنمية في البلدان النامية.

فقد باتت الصين اليوم، مؤهلة سياسيا واقتصاديا وماليا وتقنيا للقيام في بناء منظومة صناعية مستقلة وفعالة في الدول النامية التي ترغب السير في هذا الطريق، حيث تتمتع الصين بإمكانيّات واسعة من الناحية التقنية التي لم تعد حكرًا على الدول الغربية كما كان سابقًاـ خاصة وأن الناتج المحلي الإجمالي للصين وصل عام 2016 إلى 11,199 تريليون دولار[2] ما يعادل 14.8% من إجمالي الناتج العالمي ليصبح ثاني اكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة التي بلغ ناتجها الاجمالي عام 2016 ، 18,1 تريليون دولار من أصل الناتج الاجمالي العالمي البالغ 75.54 تريليون دولار.

فالصين الشعبية هي الدولة الأولى من حيث عدد السكان (22% من سكان العالم) ، وتشير كافة المصادر الى أنها تقترب وبشكل سريع من الوصول الى قمة قائمة أكبر الدول الصناعية في العالم ، فالاقتصاد الصيني –بشهادة العديد من الخبراء- هو الاقتصاد الأسرع نموا في العالم خلال الخمسة وعشرين عاما الأخيرة، فإذا استمر معدل النمو الحالي (رغم تذبذبه بين 9 -5  %) فإن الاقتصاد الصيني سيصل إلى مستوى الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2025 ، وهو أمر تدركه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم التي تعتبر الصين عدوا محتملا في المستقبل أكثر بما لا يقاس منه في الحاضر، خاصة مع التطور في العلاقات السياسية الصينية الروسية أو التطور في إطار منظمة "بريكس"، إلى جانب استمرار الخلاف بين الصين وأمريكا في العديد من القضايا السياسية العالمية.

وفي هذا السياق، نؤكد على الحقيقة التاريخية ، بأن الصين عالم قائم بذاته ، ولا تملك تاريخاً استعمارياً، بل بالعكس طالما هددها النظام الامبريالي، لكنها في المرحلة الراهنة عبر سياساتها المعتدلة وتحولها الهادئ ، ليست في مستوى التحديات والاكراهات التي واجهت بعض بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا والبلدان العربية.

كما إن التقدم الملموس، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي المدني والعسكري الذي أحرزته الصين الشعبية تحت قيادة الحزب الشيوعي، أدخل الصين بقوة كشريك أساسي وقطب عالمي فعال كمحور رئيسي في النظام العالمي الراهن في القرن الحادي والعشرين، سيكون له دورٌ رائدٌ ومميزٌ في تحديد شكل وطبيعة المنافسة الاقتصادية/السياسية في إطار التعددية القطبية الراهنة لا محالة.

في هذا الجانب نشير إلى أن نظام اقتصاد السوق الاشتراكي في الصين بدأ –بصورة أولية تدرجيه- منذ نهاية القرن العشرين، وتم اعتماده وتكريسه رسمياً في الصين عام 2010، وسيصبح هذا النظام ناجحاً أو ناضجاً نسبياً في الصين عام 2020، بما يضمن وصول معدل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى البلدان المتطورة المتوسطة، ومن ثم بلوغ مستوى معيشي مريح منتصف القرن 21. 

وفي هذا السياق، نشير إلى انّ التطورات العالمية التي شهدها القرن الحادي والعشرين، من ثورة تكنولوجيا المعلومات، وانفتاح عالمي غير مسبوق، وتطورات اقتصادية لافتة في البلدان النامية وفي مقدمتها الصين والهند والبرازيل، مكن هذه الدول من اختراق الجدار الرأسمالي الذي كان يشكل سدًا منيعًا في وجه التنمية الاقتصادية الشاملة لبلدان العالم الثالث، في ظل التقسيم الدولي للعمل الذي كان سائدًا، بالإبقاء على الدول النامية في القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية دول مستهلكة. ومع تشكل التجمع الاقتصادي لمجموعة دول بركس يكون فُتح الباب على مصراعيه أمام منافسة المراكز الرأسمالية المتقدمة، مستفيدة من إزالة الحواجز الجمركية لتسهيل انسياب السلع بين دول العالم كافة، التي شرعتها منظمة التجارة العالمية لصالح المراكز الرأسمالية. وقدوفرت مجموعة بريكس وفي مقدمتها الصين مناخا سياسيا وشراكة حقيقية للدول النامية الراغبة في بناء اقتصاد وطني، فهي مستعدة لتمويل مشاريع البنية التحتية وتقديم المعدات والتكنولوجيا المطلوبة للبلدان النامية وهي بحاجة لمثل هذه المشاريع لضمان استمرار النمو المرتفع للاقتصاد الصيني.

وعلى الرغم من خصوصية الاقتصاد الصيني كونه يشكل نموذجا آخر فهو؛ اقتصاد مختلط يجمع بين ملكية الدولة وبين استثمارات رأسمالية محليّة وأجنبية، وهي تعيش في فضاء العولمة الرأسماليّة، وأصبح اقتصادها يمثل قوة ضاربة في الاقتصاد العالمي، ويقع تحت تأثير أمراض النظام الرأسمالي، وعلى الرغم من حرص الحكومة الصينية على الإبقاء على دور قوي للدولة في الاقتصاد، يسمح لها بالتدخل لتصويب بعض الاختلالات، إلا أنّ حجم الاستثمار الأجنبي والتجارة الخارجيّة "صادرات وواردات" يضع الاقتصاد الصيني تحت تأثير ارتدادات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، التي ما زالت المراكز الرأسمالية تعاني من تداعياتها، الأمر الذي يشكل خطراً كافياً على مستقبل الصين الاشتراكية لحساب التحالف البيروقراطي الرأسمالي الذي تراكم وتطور بصوره جليه طوال العقود الستة الماضية.

الإطار السياسي والفلسفي لعملية الإصلاح:

انطلقت تجربة الإصلاح الصينية بعد مخاض طويل وعسير عاشته الصين منذ تحررها، وإنجاز أهداف الثورة الصينية السياسية الوطنية وكما أطلق عليها " ماو" الثورة الديمقراطية الجديدة عبر عملية صراع حامية الوطيس بين مدرستين أساسيتين " المدرسة الماوية الاشتراكية العقائدية، ومدرسة زعيم الإصلاح "دينغ" البراغماتية " الاشتراكية" كما قال وأكد رفاقه.

حسُم هذا الصراع والجدال بوفاة القائد الفذ " ماوتسي تونغ" مفكر الثورة الصينية وقائدها العقائدي، وزمنياً بدأت بعد رحيل خليفة الرئيس " ماو" أو سقوطه عام 1978 وإعادة الاعتبار للرئيس "دينغ شياو بينغ" كزعيم للثورة والدولة، وتطهير مراكز القوى اليسارية العقائدية داخل الحزب والسلطة.

وفي ظل جو من العداء المستحكم بين الصين ونظيرها الاتحاد السوفيتي، واستمرار رغبة الغرب وأمريكا بالانفتاح على الصين وتعميق حصار الاتحاد السوفيتي التي بدأت عملياً في عهد الرئيس نيكسون عام 1974، وتسارعت بعد طرح رؤية الصين نظريتها الانفتاح وسقوط تجربة المنظومة الاشتراكية في نهاية العقد التاسع من القرن العشرين.

وفي هذا الجانب نشير إلى أن رؤية " دينغ" للانفتاح غير المحدود على العالم الرأسمالي، تطلبت تغييراً في المقولات والمفاهيم الاشتراكية التي اعتمدتها المدرسة الصينية الماوية، وكذلك المدرسة السوفيتية وغيرها من المدارس والرؤى الماركسية التي لم تُختبر في ميدان تجربة البناء الاشتراكي، وعلى الأقل كما أكد ويؤكد رواد التجربة أنها تمثل القراءة النظرية لتناقضات عملية البناء، وأساليب حلها في ظل التناقضات التي تحكم الكون في هذا العصر، وهو اجتهاد نختلف معه انطلاقاً من التحليل الموضوعي الذي يؤكد على ان الانفتاح غير المحدود على العالم الرأسمالي (خاصة في ظل نظام العولمة الامبريالية) يعبر عن موقف مثالي أقرب إلى اليمين منه إلى اليسار، ولكن على الرغم من ذلك فإن إن رؤية "بينغ" تطال كل البنى والهياكل الاقتصادية والسياسية والثقافية والإدارية والقانونية لمرحلة ما قبل الانفتاح والإصلاح، فهي رؤية "تتطلب التحرير الجزئي للاقتصاد والكلي للعقل" حسب ما رآه " دينغ"، وإن أهم ركائز نجاحها يتوقف على الفعل الصحيح لأهداف الاشتراكية وآليات ووسائل تحقيقها، فالماركسية كما يرى " دينغ" بالغة الأهمية لتغذية القوى المنتجة وتطويرها، وأن تطبيق الاشتراكية يتطلب قوى منتجة عالية التطور وصبغة مادية غامرة، فالمهمة الأساسية للاشتراكية تطوير القوى المنتجة، واستئصال الفقر، فالفقر ليس الاشتراكية ولا الماركسية، مشيراً إلى أن تفوق النظام الرأسمالي يكمن في قدرته على التطوير المضطرد مع القوى المنتجة، وتحسين مستوى الشعب المادي.

وتأسيساً على هذه الرؤية طالب "دينغ" في نهاية السبعينات باعتماد سياسة الانفتاح عبر الانتقال من الاقتصاد الاشتراكي المخطط مركزياً إلى اقتصاد السوق، مؤكداً على أنه بإمكان الصين الاشتراكية أن تطبق اقتصاد السوق، ودلل على ذلك بقوله " السوق موجودة هنا وهناك، وعليه لابد من تطبيق اقتصاد السوق، كما أن الخطط أيضاً موجودة في النظام الرأسمالي، ومن ثم فإن التركيز على عملية التنمية وزيادة ثروات المواطنين الأغنياء سيزودون بدورهم التنمية من خلال السياق الفردي من أجل الثروة والاعتماد على النفس ، كما أن الانفتاح للحصول على الرأسمالية الاستثمارية والتكنولوجيا كفيل أن يفتح نوافذ الصين على العالم، ويدخل الهواء الجديد إليها، لكنه سيكون معرضاً أيضاً –كما يقول "دينغ"- للذباب والحشرات في مجال الاستهلاك والتغريب والاستلاب الثقافي، لكن هذه السلبيات على حد رأيه لا تقارن مع الفوائد".

أما ضوابط الانفتاح ومجاله كما يجملها " دينغ"، فهي التمسك بالسيادة كمسألة بالغة الحساسية بالنسبة للصين، ولا تنطوي على المواجهة مع العالم، بل الاستناد إلى قيم السلام والتنمية وحل المسائل الأخلاقية من خلال الحوار!! وفيما يتعلق بهونج كونج ومكاو وتايوان على وجه الخصوص فقد طرح مقولة " دولة واحدة ونظامان أحدهما اشتراكي والآخر رأسمالي في تايوان".

 وقد استندت السياسة الخارجية للصين في ضوء عملية الإصلاح على الركائز العملية التالية:

1)      هجر سياسة الثورة الدائمة التي رفعتها ثورة أكتوبر الاشتراكية وشكّلت الأساس لمرحلة الحزب الشيوعي الصيني في مرحلة الرئيس " ماوتسي تونغ" أي إلغاء أو تجميد الصراع الطبقي كمحطة محركة لعملية الانتقال من الاشتراكية وطنياً وأممياً.

2)      التركيز على شعار التنمية والسلام ومفاهيم التعاون والشراكة وتوازن المصالح وتبادل المنافع، وتهيئة البيئة السلمية الموائمة لعملية البناء.

3)      ترك قضايا النزاع جانباً ووضعها في المرتبة الرابعة والخامسة واللجوء إلى الحوار من أجل حلها سواء بالغرب أو البيئة المحيطة.

4)      تقديم المزيد من الإغراءات لأمريكا وترك المسائل الأخلاقية جانباً، وغمرها بشعار " عدو عدوي صديقي" والمقصود العداء للاتحاد السوفيتي، والتغلب على حظر أمريكا وخوفها من الصين فقد تأخرت في فتح أسواقها في نهاية الثمانينات مما أعطى الأفضلية لدول أوروبا من ألمانيا وفرنسا وغيرها لاقتسام الكعكة الصينية.

أما فيما يتعلق بسياسته لجبي الرأسمال الضروري لعملية التنمية فقد ارتكزت على ثلاثة اتجاهات:

 أ‌-      تخفيف الأعباء الاجتماعية عن الدوله ورفع الدعم عن السلع، وتقليص الخدمات الاجتماعية، فالعبء حسب وجهة نظره " يجب أن يتحمله كل الشعب وليس الحكومة لوحدها، والانطلاق من فلسفة أن الانفاق من الحكومة يعّود الشعب على الكسل وأن التجربة تحتاج إلى نشاط دؤوب من كل المجتمع الصيني".

  ب‌-    الاستفادة من ارثها الصيني في هونج كونج ومكاوي وتايوان، وحصر مشاعرهم الوطنية حيث نجح بجباية عشرات المليارات بغرض الاستثمار داخل الصين كبداية.

 ت‌-    الانفتاح على الدول الغنية وتقديم الحوافز لشركاتها كما يتطلبه اقتصاد السوق وأسسه في الإنتاج والتجارة.

 ث‌-    مغادرة شعارات الانتماء لمعسكر حركات التحرر الوطني في المحيط ووقف دعمها أو تبني مطالبها مع إبقاء موجة خفيفة لطمأنة دول نامية باعتبار الصين إحداهما.

أما سياسته طويلة الأمد فقد قسمها إلى ثلاثة مراحل:

الأولى: حل مشكلة الغذاء والكساء من 1981 إلى 1990.

الثانية: تحقيق حياة الرغد حتى عام 2000.

الثالثة: الارتقاء إلى مستوى الدول المتقدمة بحلول أواسط القرن الحادي والعشرين.

خطوات الإصلاح التشريعي والقانوني:

ولأجل تطبيق هذه السياسات وإنجاح خططها وتوجيهاتها اتخذ الحزب الشيوعي الصيني بقيادة "دينغ" ووفق رؤيته" العديد من التشريعات والقوانين فبين عامي 1979 و1994 تم سن 150 قانوناً من أجل تصحيح الأمور في مؤسسات الدولة، وأهمها هو قانون إفلاس المؤسسات الحكومية، ويقضي هذا القانون بضرورة أن تتحمل المؤسسات الإنتاجية العامة مسئولية ثبات مبررات وجودها مع إعطائها صلاحياتها كاملة، وتكريس شخصياتها الاعتبارية والحق بتوسيع أعمالها وإدارتها كاملة، وتحمّلها مسئولية الربح والخسارة وتصفية ما لم يثبت جدارتها، وقد أدت هذه السياسة إلى بروز شركات عملاقة مملوكة للقطاع العام تمكنت من تسوية ديونها والانطلاق الفاعل في عملية البناء الاقتصادي، كما تم تصفية عشرات الألوف من الشركات الفاشلة، إلى جانب ذلك اعتبار أموال الدعم الاجتماعي غير منتجة وتشجع على الكسل، وتوظيفها في توفير الرأسمال اللازم للتنمية إلى جانب الرأسمال الخارجي.

ونظراً لأهمية الريف الذي يسكنه 80% من الشعب الصيني، فقد أقر مجلس الدولة خطة الإشارة لاستنهاض الريف وتحديثه وتطويره، وقد تركزت هذه الخطة على جذب الثقافة المتقدمة والمناسبة للريف، وإرشاد وتدريب مئات الملايين من الفلاحين على استخدام الطرق العصرية في تنمية الاقتصاد الريفي، وزيادة إنتاجية العمل، وصولاً إلى تحقيق تنمية مستدامة ومتسارعة، وتشجيع الفلاحين لتغيير أساليب انتاجهم، إلى جانب ذلك سعت الحكومة وعملت على جذب الاستثمارات الأجنبية إلى الريف مع تقديم ميزات إضافية للمستثمرين الأجانب فيه، كما عملت على الإعفاء من الضرائب وحرية الاستيراد  للأجهزة والآليات المتقدمة وحرية تصدير السلع الصينية المنتجة مع حماية المنتجين ودعم الإنتاج الزراعي الوطني وإطلاق برنامج 863 الكتروني عام 1986 المتخصص في ثمانية مجالات: (العلوم الاحيائية، الطيران الفضائية، المعلومات، أشعة الليزر، الطاقة، المواد الجديدة، التكنولوجية البحرية).

في إطار تقييم هذا المشروع بعد عشرين عاماً من إطلاقه، فقد تحقق إنجاز أكثر من 8000 براءة اختراع داخل الصين وخارجها، ووضع أكثر من 1800 معيار تكنولوجيا على مستوى الدولة، وتجاوز عدد العاملين العلميين فيه 150 ألف، كما خصصت الحكومة الصينية نحو 33 مليار يوان صيني لتطوير هذا البرنامج، كما تحقق بفضله سلسلة من الاختراعات في مجال التكنولوجيا الجوهرية، والتعاون الوثيق مع قطاع الصناعة، وأنتجت الصين أنواعاً كثيرة من المنتوجات ذات حقوق الملكية الذاتية في مجالات العلوم الإحيائية، وإنتاج الأدوات وتكنولوجيا المعلومات والمواد الجديدة وغيرها من المجالات التكنولوجية العالية ذات التنافس الدولي الشديد، كان أبرزها جهاز الكمبيوتر "شيركوان" العالي الكفاءة وإعداد مجموعة من الكفاءات بطرق الإبداع التكنولوجية الممتازة، ودعم مباشر لصناعة تكنولوجيا المعلومات، وتحديد الزراعة والأدوات الاحيائية كنقطتي اختراق لهذا المجال، وتركيز الجهود في بحوث المحاصيل الزراعية العالية الإنتاج والممتازة من سلالات الادوية الحديثة واللقاحات والعلاج الجيني وغيرها من العلوم والاكتشافات العلمية في مجال العلوم الالكترونية، والفضاء، والهندسة الوراثية، والفيزياء النووية، والنانو تكنولوجي.... إلخ، علاوة على تطوير الجيش بالمعدات الحربية المتقدمة تكنولوجياً.

الإصلاح في مجال التعليم:

على هذا الصعيد، اتخذت الحكومة الصينية عدة إجراءات وقرارات للاهتمام بالتعليم أهمها:

-       التخلص من سياسات وامتيازات التعليم المجاني في الجامعات، وتحسين أوضاع المعلمين، وإيفاد 1-2 مليون طالب إلى الخارج لتلقي الدراسات المتقدمة، وتحويل المؤسسات الجامعية إلى مؤسسات رابحة تصرف جزءاً من أرباحها على تطوير الدراسات والأبحاث بما يساعد في الحد من هجرة الأدمغة إلى الخارج، وتحويلها بالاتجاه المعاكس، وإنشاء جامعات مستقلة بإدارتها وفتح معاهد وجامعات خاصة مأجورة.

 

السياسة الخارجية في زمن الإصلاح:

وفي مجال إصلاح السياسة الخارجية مرت الصين بثلاث مراحل هي:

الأولى: وتمتد من بداية الإصلاح 1978 حتى نهاية الثمانينات، واتسمت سياستها في هذه المرحلة بالسعي إلى مهادنة الغرب، والابتعاد عن التدخل في القضايا الدولية والصراعات الإقليمية، وتجنب الخلافات مع الدول المجاورة للصين، وقد استطاعت من خلال هذه السياسة أن تحد من عداء الولايات المتحدة القائمة على احتواء الصين وتهديدها عسكرياً، ومد جسور التفاهم مع الغرب واليابان بوجه خاص، وتهدئة الأجواء مع الاتحاد السوفيتي.

الثانية: بدأت مع تسعينات القرن الماضي، حيث سعت الصين إلى الانتقال نحو خطوة مهمة لحل جميع خلافاتها وصراعاتها الحدودية وتطبيع العلاقات مع دول الجوار، واستمرار تهيئة الأجواء الملائمة لسياساتها الإصلاحية. وقد نجحت الصين في احتواء هذه الصراعات وإيجاد حلول للعديد منها، وتكريس الحوار والمنطق السلمي لحل ما تبقى من تناقضات، وبناء علاقات صداقة وتعاون وتوقيع اتفاقية استراتيجية مع روسيا، فضلاً عن التنسيق الكامل للدولتين في مجال السياسة الدولية، وتوقيع اتفاق التعاون الاقتصادي مع الهند، واحتواء منظمة "آسيان" منظمة دول جنوب شرق آسيا وأصبحت عضواً فاعلاً ومهماً فيها، فضلاً عن فيتنام وغيرها من الدول.

الثالثة: وهي مستمرة، تقوم على أساس تحسين العلاقات مع دول العالم كله، بما في ذلك دولة العدو "إسرائيل" ، على طريق سعي الصين لتعزيز دورها على الصعيد الدولي، دون أن تتخلى عن تأييدها المبدأي في دعم الحقوق الفلسطينية في تقرير المصير والدولة المستقلة على الأراض المحتلة 1967 وعاصمتها القدس.

وكتقييم أولي لهذه السياسة فقد نجح " دينغ" في تهيئة المناخات السياسية الضرورية لمشروعه التنموي ومد جسور علاقاته الدولية مع كل الدول الغنية والمتقدمة كأساس، مع تقليص علاقاته مع دول العالم النامي، وما كان يُسمى بمعسكر حركات التحرر الوطني ومن ضمنها حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وإن أبقت على عضويتها في منظمة دول عالم الانحياز، التي ساهمت في تدشينها وانشاءها لمواجهة الاستعمار في وقت سابق. وهذه علامة غير مريحة في السياسة الخارجية الصينية على الأقل حتى الآن.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد لاقت سياسة الصين ارتياحاً دولياً شاملاً من زاويتين متعارضتين: الأولى اعتقاد دول الغرب أن محاولات الإصلاح الداخلية سيدفع الأوضاع في الصين إلى المصير الذي لحق بالاتحاد السوفيتي، وبالتالي انهيار الدولة والحزب مراهنة على إفرازات سياسة السوق الاقتصادي التي ستؤدي حتماً إلى ولادة نظام سياسي جديد ورأسمالي.

أما الزاوية الثانية فقد "عززت" آمال دول العالم النامي التي رأت في النهوض الصيني النوعي في كل المجالات نموذجاً من شأنه كسر الهيمنة الامبريالية على العالم، ومساعدتها في النهوض بأوضاعها، وتحريرها من نظام الإلحاق السياسي والاقتصادي والثقافي على طريق نهوضها واستقلالها وتطويرها، فتحقيق معدل للتنمية يلامس 10% سنوياً يبعث الأمل بأن تلحق هذه الدول بركب الصين.

نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي:

استخلص الزعيم " دينغ شياو بينج " ومن خلفه الحزب الشيوعي العبر من أحداث الحراك الطلابي وأحداث ميدان " تيانانمن" وتعاطف عدد من القيادات الحزبية مع المحتجين، أما أوضاع الحزب الشيوعي الداخلية فهي ليست على ما يرام، وأن معارضة الطلاب تحديداً تعني أن جزءاً مهماً من الشباب ليس مع سياسة الحزب مع ما يمثله الشباب من رافعة مهمة في إنجاح سياسته، وغياب الوحدة الفكرية في الحزب.

مجمل ما سبق دفعه لمواجهة الثغرات الفكرية، وإعادة صياغة نظريته الإصلاحية بشكل واضح، ووضعها قيد الدراسة المعمقة ونقلها إلى الممارسة، وعليه عمل على دفع المؤتمر الرابع عشر للحزب الذي عُقد في أكتوبر عام 1992 لتبني نظرية اقتصاد السوق الاشتراكية، وحدد المؤتمر مضمون هذه الخطة والرؤية الاقتصادية على النحو التالي:

مع الحفاظ على السيطرة الحكومية الكلية على العمليات الاقتصادية، فإن الأنشطة الاقتصادية والتجارية يجب أن تخضع لقانون القيمة وتستجيب للتغيرات التي يفرضها قانون العرض والطلب في السوق، وأشارت القرارات إلى أن السوق هو الذي يتحكم في تحديد الأسعار، فمن الضروري أن تكون هناك منافسة في السوق لحفز المؤسسات الإنتاجية على مزيد من النشاط والحيوية يؤدي إلى ازدهار هيئاتها الناجحة وتطويرها في الوقت نفسه، وبالتالي فإن اعتماد آلية السوق ستقود إلى تصفية المؤسسات الفاشلة والخاسرة، والتي تشكّل عبئاً على الاقتصاد الوطني حتى لو كانت ملكاً للقطاع العام.

وعلى هذا الأساس باتت الصين أمام شكل جديد للملكية في الصين وهي الشركات المساهمة التي تتوزع حصصها بين شركات القطاع العام والخاص، حيث هدفت الحكومة من خلال قرار الشركات أن يتحمل المساهمون كامل المسئولية عن الشركة وفقاً لنسبة استثمار كل منها، بينما تتحمّل الشركة ديونها بالكامل.

وإضافة لذلك التفصيل في بعض الشروط والقوانين واستثارة النزعات القيمية كالشفافية والنزاهة والتمسك بالأخلاق التي يفرضها الواجب، والابتعاد عن الفشل والتزوير وسرقات ماركات الإنتاج أو اللجوء للرشوة...الخ.

أما القانون الثالث الذي أقرته السلطات الصينية كان قانون حماية الحقوق المشروعة للمستهلكين وقانون جودة المنتج وينص القانون على " أن يتحمل المنتجون مسئولية جودة المنتجات وأن يتحمل الباعة مسئولية الإصلاح وتبديل وإعادة السلع المباعة والتي لا تحمل المواصفات المحددة المكتوبة على صناديق التغليف، وأن يعوضوا المشتري عن خسائره كما ينبغي على الباعة تعويض المشترين عن الأضرار التي تلحق بهم  اثر وجود عيوب ناتجة عن أخطاء"، وبالتالي فإن المستهلك يتمتع عند شراء السلع بالحقوق التالية:

-       الحماية من الأضرار بالبدن والممتلكات والحق في الحصول على المعلومات الصحيحة حول الحرية في الاختيار، وإبرام الصفقات المتكافئة والعادلة، والحق في التعويض عن الخسارة التي تلحق به.

والقانون المكمل والهام الآخر كان قانون " التجارة الخارجية" وأهم ما جاء فيه:

  1. تزاول الدولة نظاماً موحداً للتجارة الخارجية تكون فيها هذه التجارة عادلة وحرة وقانونية.
  2. تضمن الدولة مزاولة التجارة الخارجية وتخصص اعتمادات مالية لتطويرها بشكل نزيه وغير منحاز.
  3. تتحمل الدولية مسئولية إنشاء هيئات لخدمة الإدارة الخارجية.
  4. تخصص اعتمادات مالية لتطوير هذه التجارة، وأموالاً أخرى للمخاطر.
  5. تقدم ائتمانات للاستيراد والتصدير أو تعيد رسوماً معينة في تجارة الصادرات، كما طالبت المؤسسات التي تمارس التجارة الالتزام بالمهنية والنزاهة والشفافية في ممارسة أعمالها.

 في نفس الوقت تم إجراء تعديلات على الدستور الصيني في تقديم ضمانات لأشكال الملكية في الاقتصاد الصيني تحدد الدور القيادي للدولة في حماية الحقوق والمصالح المشروعة للتنظيمات الاقتصادية الجماعية والمصالح المشروعة للاقتصاد الفردي، وتحمي الحقوق والمصالح المشروعة للاقتصاد الخاص وتمارس التوجيه والمراقبة والإدارة له، إضافة إلى قواعد لضبط الإعلانات التجارية والتزاماتها بالمواصفات وعدم الانخراط في منافسات غير شريفة

نظرية التمثلات الثلاث:

بوفاة الرئيس " دينج" عام 1997، عاشت تجربة التحولات الاقتصادية مخاضاً صعباً على مدار أكثر من عشرين عاماً من انطلاقها، وقرابة عشر سنوات على انطلاق نظرية السوق الاشتراكي التي حاولت معالجة الكثير من الأمراض التي أفرزتها عملية الانفتاح الاقتصادي على دول الغرب الرأسمالي واعتماد اقتصاد السوق كأساس لتحريك عجلات الاقتصاد الصيني ، في ظل ظروف مواتية عملت على تهيئة الصين على المستويين الداخلي والخارجي من اتخاذ شعار " الانفتاح والتنمية السلمية التي أطلقها الحزب الشيوعي وفق رؤية "دينغ" وإسقاطه لمقولة الصراع الطبقي في سياساته الداخلية والخارجية، وفي ظل رغبة الغرب الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة في محاصرة الاتحاد السوفيتي من بوابة الصين، وانفتاح شهية شركات احتكارية دولية لغرف الثروات من سوق الصين العظيم.

إن مجمل هذه العوامل الذاتية والموضوعية، أعطت دفعة لانفتاح الصين على العالم وتشجيع الشركات الرأسمالية للاستثمار في هذا السوق الذي يحتاج كل شيء في الوقت الذي أتاح اقتصاد السوق فرصاً نوعية لتقدم الاقتصاد الصيني، لإدراك الرئيس " دينج" للطبيعة المزدوجة لاقتصاد السوق على حد تعبير محمد خيري الوادي في كتابه "الصين من التطرف إلى الاعتدال"، ذلك إن تحفيز دينامية وتسريع وتيرة النمو الاقتصادي هو أحد أوجه اقتصاد السوق.

أما الوجه الآخر والمرتبط بالسمة العفوية والفوضوية اللتان تحكمان عملية الاقتصاد واتجاه سيره فإنه من شأن هذه السمة إنتاج كل الأمراض والأزمات التي عاشتها وتعيشها الرأسمالية كنظام اجتماعي، وعليه فإن إطلاق نظرية السوق الاشتراكية كانت من وجهة نظر " دينغ" استجابة للتحديات والظواهر السلبية التي أفرزتها تجربة الانفتاح بعد عشر سنوات، واستهدفت تمتين النظام السياسي الصيني وإحكام قبضة الحزب الشيوعي الصيني الذي يراهن عليه لإنجاح وحماية هذه التجربة، وتعزيز جماهيريته وضمان التفاف الشعب حول سياسته الاقتصادية.

لقد نجحت نظرية " دينغ" وما ارتبط بها من إجراءات وتشريعات في إعادة الاعتبار لوحدة الحزب الداخلية، وتطوير أداؤه والحد من استفحال أمراض النمو الرأسمالي الموضوعية، ولكنها كما يشير "دينغ" كمنظر ماركسي سابق، "ان هذه الامراض بطبيعتها الموضوعية المستمدة من الرأسمالية لا تزول سوى بإزالة هذا النظام، فإفرازات النظام الرأسمالي لا تقتصر على أمراض التفاوت في الثروة والفساد والمضاربة في السوق وتهريب الأموال وغيرها، بل أيضاً توجد المناخ المواتي لنشاط كل القوى التي تقف على يمين التجربة المدعومة من قبل النظام الرأسمالي وبشكل خاص الامبريالية الأمريكية، فأمريكا لم تفقد أملها في تغيير النظام الصيني، كما لا يسعدها أن يضاف إلى نادي الدول الرأسمالية لاعب قوي كالصين يقف على رأسها حزب شيوعي مسلح بأدوات التحليل الماركسي يعلن انحيازه للخيار الاشتراكي، ومظاهرة الطلاب لم تكن سوى البروفة فقد تبع ذلك نشوء حركة " الفالينج كونج" في نهاية التسعينيات من القرن الماضي التي شكّلت تحدياً جدياً للنظام الشيوعي، نمت وتغذت من الأمراض التي أنتجها النظام الاقتصادي الصيني، ولم تخفِ أمريكا دعمها لهذه الحركة التي ارتدت قناعاً بوذياً وتبنت الدعوة لإسقاط النظام السياسي لاستئصال هذه الأمراض، فضلاً عن رفعها لشعارات الديمقراطية وحقوق