الاسير منذر مفلح يكتب من سجنه ..

اليمين الصهيوني ونهاية حلم هيرتسل

0CA5E1B2-0EFD-427E-9FFB-53D6138BCB09.jpeg

اثنان على الأقل من مفكري الصهيونية وروادها الذين بنوا الكيان وجيشه غادروا أرض المستوطنة بسبب اقتناعهما أن هذا الكيان ينحدر نحو نهايته، في حين أشار الثالث من على صفحات صحيفة هآرتس الصهيونية أن هذا الكيان انتهى في اليوم الذي اعتلى سدة الحكومة رئيس يعتمد الكيمياء.
لهذه بعض المؤشرات على نسخ الأيديلوجية الصهيونية التي استنبتت شكل جديد منها، الصهيونية الدينية الصهيونية القومية التي هي الأخرى شكل من أشكال الأولى بمعنى تحويرها لليهود المتدينيين لإطلاق صبغة قومية عليهم.
وهو المؤشر الأول على تآكل المستعمرة من الداخل بإنهيار أساسها الأيديلوجي الذي قامت عليه، وأنبتت لتجعل عددًا من روادها ينفضون حولها فأتاح المجال أمام أبنائهم وأحفادهم للهجرة خاصة نحو أمريكا.
وهو أيضًأ ما يشير إلى نهاية ما أطلق عليه التيار العمالي أو الاشتراكي، بل أن ما يُطلق عليه اليسار الصهيوني أصبح وبشكل لا لبس فيه ظل لليمين لا أكثر، ليتحول اليمين لهادم للمشروع الذي حتمًا سينهار من الداخل، إن لم تنوجد العوامل الخارجية لإنهياره فلا أدل على ذلك من توغل الفكر اليميني في المجتمع الصهيوني كإرتداد على الفكرة الصهيونية وانفضاض من حولها ليصبح هذا اليمين اساسًأ لحالة اللاستقرار السياسي منذ اغتيال رابين مرورًأ بالضغط والتهديد الذي يتعرض له رؤساء وحكومات ووزراء وأعضاء كنسيت في الكيان، ناهيك عن مظاهر الفصل الواضح ما بين العلمانيين والحريديم في المسكن والتعليم وغيرها.
يضاف لهذه الأزمة توغل القوى الدينية داخل مؤسسة الجيش التي أريد لها ذات يوم أن تكون معهدًا لإنشاء الأمة الصهيونية، ونحن هنا لا نتحدث عن التهالك العسكري لهذا الكيان أمام كيانات عسكرية أو شبه عسكرية في لبنان وفلسطين وضعف قوته السياسية مما تطلب من الراعي الأمريكي التدخل لتطبيع هذا الكيان سياسيًا، بعد أن أسقطت كل محاولاته العقلانية أمام تعنت اليمين في إعادة الترويج لدولة الكيان وتطبيعها من خلال اتفاقيات سلام لم يستطيع سياسة الكيان أن يمررها نتيجة لسيطرة اليمين الديني القومي المتطرف على الحكم، وارتفاع أسهمه ومردوده الانتخابي، بما يهدد بتحويل الصراع لصراع ديني.. نتيجةً لارتفاع أسهم اليمين على طرفي ويقضي المعادلة "الاحتلال الديني" وهو مصطلح يمكن اشتقاقه ونحته على الاستيطان في القدس والضفة الغربية والمقاومة الاسلامية لمشروع الاحتلال وكيانه.
هل هناك مبالغة في الحديث عن نهاية الكيان أو حلم هيرتس بالدولة اليهودية؟
المؤشرات المادية واضحة للعيان، وليست بحاجة لجهد لإكتشافها، فهيرتسل قد حدد الدولة بالدولة اليهودية، وهو ما جاء عليه قانون يهودية الدولة، وقانون القومية العنصرية اللذان استندا إلى مجموعة كبيرة من القوانين العنصرية الصهيونية، قانون العودة، وقانون الأرض وتملكها، وقانون من جهة اليهود..إلخ، وحدد أن مفهوم القوة يعني الأغلبية وهو ما ينادي به كثير من المفكرين الاستراتيجيين الأمنيين في دولة الكيان أو ما اصطلح على تسميته القنبلة الديموغرافية التي تهدد الكيان في ظل تفتت الفكر اليميني الصهيوني الجديد أمام كل المحاولات للحفاظ على هذه الأغلبية من خلال حل سياسي يخرج الفلسطينيين أو الكثرة الفلسطينية من حيز الدولة اليهودية.
بكل الأحوال لم يعد بالإمكان الحديث عن حل الدولتين تحت مبررات الفصل الديموغرافي، في فلسطين التاريخية أصبح عدد الفلسطينيين في داخل فلسطين التاريخية 7 مليون فلسطيني موزعون: في غزة 2.7 مليون والضفة 3.19 مليون، الداخل الفلسطيني المحتل 1.7 مليون، و428 ألف في القدس. وهو عدد مساوي لعدد اليهود المستوطنين في فلسطين التاريخية أيضاً، وهو ما أسماه عيسى قراقع هي لعنة كنعان التي تطارد الصهاينة.
وصول عدد الفلسطينيين حول العالم إلى 4 مليون نصفهم في فلسطين، ألا يكفي التساوي الديموغرافي رغم كل المجازر وعمليات التطهير العرقي، للتأكيد على بوادر انهيار الكيان ونهايته حلم هرتسل، ولتنتقل اذن للمعطيات على الأرض:
1. الضفة الغربية والقدس، رغم كل الاستيطان الذي يحاول اثبات حضوره على الأرض من خلال نقل المستوطنين إلى هناك لإعاقة الحل السياسي أو حل الدولتين، إلا أن المستوطنين لم يتجاوزوا المليون أمام الأغلبية الفلسطينية في الضفة والقدس.
2. وفي غزة اضطر الاحتلال للانسحاب تحت عدة مبررات في العام 2005، منها الأغلبية الفلسطينية المطلقة هناك، والتي لا يريد احتسابها داخل ما يعتبره حيز الكيان.
3. النقب، يؤكد طلب الصانع على وجود ما يقارب 300 ألف فلسطيني إلى 400 ألف فلسطيني في منطقة النقب، ويتحدث عن إمكانية أن يصبحوا ضمن معدل التكاثر إلى مليون فلسطيني خلال خمسة عشر عاماً، وبمعنى فقدان اليهود للنقب. ومستقبلاً ورغم كل إجراءات الاقتلاع والتطهير العرقي هناك والهدم والتمييز العنصري ومحاولات الاسكان والتطوير وهو ما يطلق عليه الساسة والإعلاميين في الكيان مصطلح فقدان الحكم الصالح للعرب.
4. الجليل، يتحدث أحد المحللين الأمنيين والاستراتيجيين عن فقدان الجليل وتحولها لخطر استراتيجي على الدولة بتحول الفلسطينيين العرب بالأغلبية المطلقة نتيجة لعدم اكثار حكومة الكيان للهجرة السلبية لليهود من الجليل نحو المركز مشيرًا إلى أنه قبل 20 عاماً كان يشكل اليهود 25% من الجليل، يصبح اليوم نسبة اليهود 14% من سكان الجليل بواقع 700 ألفًا مقابل 86% فلسطيني عربي(420 ألف).
5. والأمر ذاته ينطبق على منطقة المثلث ووادي عارة الذي جعل ليبرمان قبل سنوات في معرض برنامجه الانتخابي مستعدًا لأن تكون حدود الدولة الفلسطينية المستقلة هي شارع 6 الذي يخرج الحيز الفلسطيني السكاني تحديدًا من حدود دولة الكيان وخاصة منطقة المثلث ووادي عارة.
فأين هو حلم هيرتسل، وأين هو الكيان؟
يقتصر الكيان الصهيوني اليوم على حيز ضيق يمكن أن نطلق عليه "تل أبيب الكبرى" ويموغرافيًا مع بعض التجمعات المتفرقة داخل الاغلبية الفلسطينية في النقب وجنوب فلسطين عمومًا والجليل والقدس والضفة، وعسكريًا بعض المعسكرات التي يتحصن بها جيش أصنف من مواجهة غزة ولبنان، ويمتلك بعض أكثر الأسلحة تطورًا ولكنها لا تنجيه من التعثر العسكري كي لا يبالغ أمام حرب عصابات تقدمها مجموعة لا يزيد تعدادها على بضعة آلاف في حيز جغرافي كغزة لا يتجاوز 360 كيلو متر مربع في أحسن أحواله.
وسياسيًا يبيع العرب الوهم المعدوم والمروج له أمريكيًا من خلال مشاريع التطبيع التي لا تثبت قوة الكيان بقدر ما تثبت هشاشة وضعف الأنظمة الحاكمة في تلك الدول.
إن كيانًا يبيع الوهم بقوته هو من أضعف كيانات المنطقة حيث أن هذا الكيان الذي افترض منذ ما قبل العام 1948 أن حدود فلسطين التاريخية هو حيزه الدولاني وأكثر على ذلك في العام 1967 ولا زال يفقد حيزه بقعةً أثر بقية لصالح الفلسطينيين العُزل في غزة والضفة والجليل والنقب حتى أصبح محاصرًا بلغة كنعان في بقعة جغرافية صغيرة جدًا على الساحل الفلسطيني ، لا بل أكثر من ذلك فقد اعتاد محمود عباس أن يطلق على ما يعتقده دولة فلسطين بموافقة صهيونية "جبنة سويسرية" لكثرة التداخلات ما بين أراضيها العتيدة، وما بين الكتل الاتسيطانية اليهودية، وما لا يعرفه أن هذا الوجود معكوسًا فالوجود اليهودي "الحيز البشري لدولة اليهود يتآكل"، فالفلسطيني لا يزال رغم المجازر في يافا واللد والرملة وحيفا وجسر الزرقاء وكل بقعة من فلسطين التي سيذهب فيها الاحتلال الصهيوني بصبغته اليمينية الجديدة إلى آخر رحلته.
ما الذي نعنيه هنا بتحول هذه الخيرات التي فيها أغلبية فلسطينية إلى خطر استراتيجي على دولة الكيان؟
بعيدًا عن التخوف الصهيوني من تبلور هوية خاصة فلسطينية تجعل من تحولها إلى قومية تؤكد نفسها فوق حيزها الذي هو الحيز المحتل فلسطين التاريخية، وبعيداً عن تطور النقيض التاريخي لأي احتلال وهو المقاومة بكافة أشكالها، خاصة المسلحة منها كما في لبنان حدود الجليل الشمالية أو الضفة الغربية، أو غزة، أو ما يحدث في النقب أو أحداث أيار 2021، وصولًا لحالة فقدان السلطة بشكل فعلي في الشمال حين أعلنت أجهزة الأمن الصهيونية منع التجول لليهود على الطرقات الخارجية، أو ما يحدث بشكل يومي في جنوب فلسطين والنقب، فإن المبررات لمناداة الفلسطينيين على اختلاف مناطق سكناهم داخل فلسطين التاريخية، وفي ظل الإعلان عن دولة الكيان كدولة أبارتهايد وتمييز عنصري، وفي ظل تمتع أغلبية كبيرة نسبيًا من الفلسطينيين بالتواجد بحيز جغرافي لهم في تواجد حضاري ومادي وثقافي.. إلخ يؤهلهم للمطالبة بحكم ذاتي أو بالانفصال عن الدولة، كما في كتالونيا- أسبانيا، وبعض المقاطعات والولايات في إيطاليا أو فرنسا أو غيرها من دول أوروبا مثلًا دونيتسك ولوغاسك في أوكرانيا، والمطالبة بالانضمام لدولة أخرى على سبيل المثال نلاحظ مثل الجليل والنقب لم تكونا أساسًا ضمن حيز قرار التقسيم للدولة الصهيونية أو المثلث، وعارة وعرعره لم تكونا كذلك.
وبهذا فإن المطالبات بحسب القانون الدولي والأعراف الدولية تصبح في ظل العنصرية والأبارتهايد المعترف بهما كنظام حكم في دولة الاحتلال تصبحان ذات منطق القانون الدولي، وهذه المطالبات لا تعتبر بأي حال من الأحوال إرهابًا، إذا ما طالبت جهة سياسة مثلًا بإجراء استفتاء شعبي في إقليم الجليل تحت مراقبة دولية للانفصال عن دولة الكيان، والانضمام لكيان آخر، أو تأسيس كيان مستقل.. كذلك الأمر النقب أو المثلث، يضاف لذلك الضفة الغربية وغزة والقدس، وبهذا فإن الكيان أصبح أكثر هشاشة ليس فقط عسكريًا وديموغرافيًا وسياسيًا بل وقانونيًا وأخلاقيًا وأيضًا وربما نقدم هذه الرؤية كمدخل لاستراتيجة فلسطينية جديدة تتخلى عن حل الدولتين المنهار.
ختامًا، أرجو أن أكون قد أوصلت لأهلنا وشعبنا مدى هشاشة هذا الكيان، ومكونات تطوير استراتيجيات مقاومة شاملة بالشكل والأسلوب والأدوات لالحاق الهزيمة بهذا المشروع، وتاليًا لأخواننا العرب أن هذا الكيان أضعف من أن يرتهنوا لقوته لحماية الأنظمة فهو يبحث هنا عن الأمان والشرعية.
وأخيرًا يُمهّد الاحتلال منذ انشاءه الكيان لتفتيت الهوية الجامعة للشعب الفلسطيني، وتحويله لهويات فرعية جهوية جغرافية مجزأة. سكان غزة/ الضفة/ القدس/ المثلث/ النقب/ الجليل. وهنا تكمن خطورة تحويل الانتماءات الجغرافية لتعبيرات سياسية، وهذا ما يتطلب التأكيد على وحدة الاستراتيجيا عبر إدارة حوار فلسطيني شامل يشمل الكل الفلسطيني في كل أماكن التواجد دون استثناء وخاصة فلسطيني الداخل والشتات، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن المبادرات السياسية لفلسطيني الداخل يجب أن تخرج من عباءة التمثيل لفلسطينيي الداخل أو تمثيل سياسي في نظام الحكم الصهيوني ( الكنيست) ولادارة مبادرة سياسية تشمل الفلسطينيين جميعاً، والمشاركة بذلك، أو العودة للعب دور أكبر في إطار م.ت.ف، وبكل الأحوال فإن وضع دولة الكيان عاد إلى مرحلة اليشوف اليهودي، أي العودة إلى هيئة السكان "اليهود "في فلسطين قبل قيام الكيان الصهيوني، من حيث التوزيع السكان، وتحولهم لأقلية مسلحة تحاول جاهدة دون جدوى السيطرة على الأرض وطرد السكان من النقب والجليل  والقدس والعديد من مواقع الضفة الغربية في الاغوار ومحيط القدس  وغيرها.
 
• بقلم الرفيق منذر مفلح عضو اللجنة المركزية العامة، مسؤول اللجنة الإعلامية والثقافية في منظمة فرع الجبهة بالسجون.