إصرار معروف يتحدث عن الأسير المحرر "مجد زيادة"

المجد..بقلم الأسير إصرار معروف

dZU3D.jpg
المصدر / غزة-السجون-حنظلة

إما أن ينهيَ كلماته مطلقاً تنهيدة قصيرة أو أن يطلق أخرى دون أن يتحدث أو دمعة أو ابتسامةُ قهرٍ أو حنين، ويجب عليه بإقفال العيون ومن ثم تتفتح في اللحظة نفسها أو بربتة على الكتف أو قبضة على ساعده أو ابتسامة تطلب منه المزيد من الأمل أو قد تكون ابتسامة شكر للثبات، فالبوح أصبح له قوانين معقدة تحكمه بين هذه الجدران، وعندما يطلق العنان للنجوى أو قد يصبح العجز سبب في إخفاء ما يدور في الأعماق، تصبح الإجابة على ذلك أكثر تعقيداً وقد تتطلب تشريعات طارئة تجتاز اللاوعي أو أقل منه، أو تصبح الوعي أو أكثر بما يدور هنا، وهنا يختلط الاحتضار بالمخاض في آن واحد، قد تكون طقوس الموت وشهوب الأبصار هي نفسها تلك لحظة الولادة وقد يكون لذلك متعة متناقضة ما بين الألم والأمل ويجري ذلك تحت سطوة الشمس وحدُّ البرد، فهنا يبدأ الصيف قبل أوانه وينقضي الشتاء دون أن يأخد حقه حتى في أن يلقي بضبابه وأمطاره، فالساعة الثانية عشرة ونصف هي موعد لأن نلقي بأجسادنا تحت بقع الظل، قد تمر دقائق أو ساعة على اجتياز هذه الفترة الأكثر حرارة، يوجد السياج المغطى فوق رؤوسنا وفي المساحة الفارغة المخصصة تحته تأخذ الأرواح فسحة نحو الأمل، يقطع على الشمس الحارقة قطع مربعة من الأشرعة لتغطي على الأرض مربعات من الظلال ففي بداية القسم كان مربع ذو لون أزرق كان لونه يعتذر لنا عن إخفاء السماء كنا نقضي ليلنا نتسامر تحته، وفي صباحاتنا الباكرة نطلق تنهيدة بين الأرض والسماء، كأنها عتبة المنزل ونجلس بجانب بعضنا البعض، كان ظلنا بعد ساعات العمل نستريح أسفله نترك الآمال تغادر لنكمل في طريق الحياة، لألتقي معه تحت الشمس وتحت الظل كان (مجد زيادة)، حاله كما الحاضرون معنا يحمل غصة وعشق بداخله، ففي الأيام التي مكثت بها معه اعتدنا أن نسحب كراسينا لنجلس هناك لنمتلك الظل كما الشمس، نشرف على عالمٍ من المعاناة، يتنقلون ما بين الشمس والظل ما بين ( الخيام، الساحات، الفورة، دورة المياه) ويجلس بقربي، كان الماء يتساقط فوقي بعد ان بللته قصداً لأحاول مجابهة اللون الاصفر أرى قطرات الماء وهي تتساقط من رأسي فوق جسدي بكل هدوء متذكراً أصوات صنابير المياه التي رأيتها واسمع صوتها وهي تسقط قطرة تلو القطرة ليقطع علي وينطلق بصوته:

- تعرف شو!  

وجهت أنظاري نحوه اتلقّط الكلام من عيناه قبل صوته  

- شو! 

- في ١/١٠،   

       كان يحرك باصابعه مطلقا سبابته أمامه

- اه( قلتها بصوت منخفض كي لا أفسد ما يطلقه)فمن هيئته وعيناه، كان مختلفاً عن كل مرة.

- بصير عمري اللي عشته بالسجن قد العمر اللي عشته برا بالضبط.

ليقتحم العجز المكان وأحاط بي وتزاحمت حواسي وأصبحت بين حمية الضربة ولهيب الشمس، أبحث عما أقوله في داخلي، متخبطاً بما يجري وهل قد صهرت كلماتي أم أصابها الجليد أم مرت بكلا الحالتين.

- مش بعد إفراجك المفروض ! 

- لاء ، ليش؟ 

- لأني اللي بعرفه أنك كنت بعمر العشرين سنة.

- لا، كنت ١٩ سنة ونص.

أشحت بأنظاري عنه لاستعيد المشهد واستذكر المكان، كان أمامي، ابحث عن منقذ لكن هناك من هم من حالة أو أسوء أو قد يكون أقل سوء لكن بقليل، تمالكت نفسي أمام كل ما اجتمع هنا لأعيد أنظاري نحوه قائلاً

 - - مش عارف شو أحكيلك

- شو تحكي مهي الوقت قاعد بمشي 

هاي مش أول مرة بنحط بهيك موقف مش ضروري يكون في حدث مباشر بس لازم قدر الإمكان أحاول أرد، وتركنا هذه الكلمات في تلك البقع لنجلس في اليوم التالي نراها، نستمع اليها نراقبها من مكان آخر لأعيد هذا المشهد فالأماكن هنا تحتفظ بالأصوات والذكريات وحتى وإن لم تولد بها وإن حضرت من الخارج لتستولي على المساحات الصغيرة بمساحات من مشاعر دافئة والحواس تصبح لها سلطة عليها، آتياً يوم جديد بمكان وحواس جديدة ، تحاصر كل ذلك في لحظة، نجتمع في زاوية توصل ما بين الخيام الست الملتفة بمحاذاة الجدار على جدارين من جدرانه الأربعة كانت جوانبها قد ألقت بالظل لأجلنا لنخبئ أجسادنا من ألم وعيوننا تترقَّب الشمس وخيوطها وانعكاسها وانكسارها وظلِّها، كان ما بين الخيمة رقم ٣ ورقم ٤ ظل النهار يبدأ يجتمع هناك ونقطة لإنطلاقة لنختاره المكان الثاني لنجلس هناك ايضًا، نحمل كرسيين وبعدها ينطلق صوتان صوت انتهاء الحركة لنوقف أرجل المقاعد، وصوت سقوط أجسادنا فوقها وتنهيدة، الأولى منه فهي مشبعة بما جمعه من أيام الألم والأمل والثانية قصيرة مجهزة تشبع نفسها وتُراكم من ما سيأتي، ونبرَتين الأولى خشنة رغم ملامحه الهادئة والثانية خشنة لكنها ليست كتلك فهي نوعا ما تناسب حجم الجسد والعمر لتنطلق نبرة الصوت الأكثر خشونة بعد أن تجولت أنظارنا في المكان 

- كم يوم ضايل؟ 

- لأيش؟

- تروح

- ضايل اسبوعين.

- وهي روحت معاك.

- اه خلص، كنت متوقع إنه الأيام ثقيلة بآخرها بس جيتي هان ما خلتني أشعر بالوقت وهي صارلي ثلاث أسابيع ولسا حاسس إني بحاجة وقت لأتعرف على الناس هان، كنت قد انتقلت إلى هذا السجن من فترة قصيرة في خلالها قد تجولت في ثلاث أماكن مختلفة مكتظة بالمعاني والكلمات فحكايا القابعون هنا كُثر بألم وأمل.

 

- هو هيك الواحد لما بنتقل لمحل أول أيام بتمرق سريعة وهو بتعرف على الناس.

- اه صحيح، قد حركت برأسي لأسأل محاولًا أن أجتاز ما قد يحدث في الحديث عن الأيام مع من يبحث عنها أكثر تعقيداً.

ليصمد قليلاً كان ما يجول بخاطريه هو ذاك اليوم الذي سيوصله حصانه إلى عتبة بيته وهل هناك نبع آخر ليشرب منه ويلتقط بعض العشب من جوانبه، وينهض ليسرج به نحو البيت، ليشاركني بما يجري معه.

- بتعرف بشو بفكر! 

- بإيش!

- بحسب قديش ضايلي، ضايلي ١٠ شهور 

- اه مش ضايل اشي 

- تحسب معاي شكلك 

- طبعاً 

- بس تعرف إني لأول مرة بحس إنه مش ضايل اشي. 

- المفروض إنك من قبل سنة بتحس بهيك اشي.

- بجوز تستغرب أنه بحسب وهاظ اشي طبيعي بس شعور أنه (مروح) هاي أول مرة بحس فيها.

- خلص روحت يا ابو محمود، 

لم أجد كلمة سواها لألقيها فوقه فما سقط فوقه من كلمات جعل من روحه وجسده وملامحه تبدو أكثر جمالاً وصلابة، لنستسلم سويًا للذاكرة عندما ترك أنظاره تغادر المكان تجتاز السياج من فوقنا والجدار كنت قد تركت نفسي تقفز من مخيلتي من على ذات الجدار لأذهب هناك وأشاهد ذاك المشهد مرة أخرى، كنت قد اعتدت على تكراره لا لكونه يشعرنا بالضحك بل ليشعر بألم وخجل كما لأننا اعتدنا على أن نمارس الموت لنحيا ونمارس الألم لنتأمل أكثر، كان عبارة عن مقابلة أُجريت مع والدته بعد أن تصلب عوده على الأعوام التي انقضت عليه بالسجن كانت تلقي بكفيها في حجرها تجلس على كرسي في باحة المنزل ليظهر جزء من البيت وجزء من باحة المنزل خلفها ((أوراق أشجار تلمع)) وروحها كاملة وقلبها يظهر أكثر حباً واشتياقاً وألم وحنين، كانت هيئتها في الجلوس تشبه هيئه بالجلوس بقربي، فقد ترددت كلماتها كلما شاهده يجلس هكذا لاستمع لصوتها وهي تقول "يا الله شو مشتاقة هيك نفسي أشوف مجد فايت علي من باب هالدار".

- ما يراودنا حينها أنه سيطل تلك اللحظة، وكانت حركة يدها وعيونها فعلاً تنتظره لا شك بأن صاحب العدسة قد تركها وبدأ ينظر نحو باب البيت كما نحن انتظرنا منه أن يوجه العدسة لنرى قدومه، كانت رحلة في أن ألقي بذوري في كل مكان وكل شخص حتى انتهى الوقت في هذا المكان وانتهت الفصول، لأجمع زهراتها وزهراتهم فيما تركوني اجمع حصادهم الذي نثرته الرياح، قد حملت كل ذلك معي، اغمضت عيوني موسعاً عن صدري بشهيق اجمع به كل ذلك، وزفير سبقه قبله قد قفزت من داخلي لأحمل كيسًا من الخيوط البنية أجمع من كل ركنٍ ومن كل صورة وصوت، لأعود وانفضه ذلك الكيس بداخلي لأغذي نفسي من ألمهم وصوت آهاتهم كما فرحهم وصوت ابتسامات عديمة الألوان، فبعد ان اجتزت باب القسم ولا زالت المياه القذرة ترافقني، أصبح الطريق فارغ أمامي وأمام خيوط الشمس لتقطع الحبل السري وقبل أن يُقطع كانت أنفاسي التقطها بصعوبة من ذاك الموقوف، بعد أن ودّعت الأشقاء في قسم (٨) وغادرت لأصل ذاك القسم المحاذي ولا يفصل بيننا سوى جدار لأودع أشقاء آخرون هناك في رحم المنفى، لأجد أحدهم يقف على الباب الحديدي الفاصل فبعد أن ودعته قلت: 

- وين مجد؟

- هيو جاي، لينظر خلفه ليجدوه يتقدم نحونا وفسح له قليلاً ويقول: 

- هي أجا، طلَ مجد وسمح لي أن احتفظ بصورة له وملامحه الأخيرة كما صوته 

- ااه هيني، اقتربت منه صافحته من خلف السياج الفاصل وردد لي 

- يلا بالسلامة 

- الله يسلمك عقبال عندك، 

بدأت بخطواتي ابتعد عن السياج 

- دير بالك على حالك 

- ولا يهمك 

- وانتا دير بالك على حالك 

- "والنا لقاء" ، ورفعت كفي له أودعه وأرد على تلك الإشارات التي يطلقها من خلف السياج، بدأت التفت للخلف، لم تختفي ملامحه عني بعد.

- بستناك مش تطول علي !

- طيب ماشي

بدأت ابتسامتي تتسع أشاهد ابتسامته لي.

- معاك شهرين 

- بس ! 

- وكثير عشان نلحق نرجع نروح سوا 

- خلص ماشي، سلام.

- سلام،

واختفيت عنه بالمطلق، وزال بعدها سائل من على جسدي عندما احتنضت أمي ووالدي، أشقائي، أصدقائي، ليجفف جسدي تحت خيوط الشمس وتحت ضوء القمر فبعد أن غادر الضيوف وبعد الضجيج والصراخ ذاك اليوم انتهت مع صوت آخر كرسي لآخر ضيف لأبقى في خلوة، أعود لأجلس من حيث غادرت لأغوص في ذاك الغياب وكيف عادت الطرقات إلى هنا وإلى أصحاب الطرقات ومن فقدها ومن يبحث عنها، ليست فقط الطرقات بل الحنين والذكريات لأجلس فوق بئر من الأسرار والحكايا وعلى يساري البيوت والحي والمدينة، عالم من التناقضات والصراع والموتى، وعلى يميني البيت والدفىء والأمان والحب وخلفي بيت أجدادي والذكريات والماضي وأمامي الجبال والوادي، الأشجار والتراب، المستقبل والحياة، وقبل أن يبدأ كل هذا يأتي لباب المنزل المشرف على الطريق الذي يقودنا إلى المستقبل وكل زمان ومكان، لم يكن له دفات، أنظر نحوه وانتظر عودة الراحلين المفقودين الحالمين البؤساء والمقهورين،، فيما بدأت رحلة العاميين في لحظة( الشخوص ، السجن، الاقسام، الغرف، ساحات الفورة)، تذكرت ( مجد وكلماته الاخيرة كانت يتحدث بلساني ولسانكم كأنه لن يطيل الغياب ونحن من ينتظر عودته، وكيف اوصيناه سويا ان يهتم بنفسه فالغياب عالم موحش مليء بالألم والمعاناة) وامه هي لم تكن هناك كما حضرت معه تنتظره معنا فكل البيوت بيته تزين بطلتله الاولى علينا بعد ان اجتاز ابواب المنفى.

فيا مرحبا بك، بالديار أمان وأصبحت دافئة بعودة أنفاسك..

إصرار معروف - سجن النقب