كتاب على شكل حلقات يكتبها الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة الثالثة والعشرون "مشاريع لم يكتب لها النجاح"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

ترددت مرارًا في كتابة هذه الحلقة التي تفضح بعض المشاريع الكتابية التي بدأت بها ثم اضطررت للتخلي عنها في مراحل مختلفة، فمن الطبيعي أن يكون لدى أي كاتب بعض من مشاريعه التي يتخلى عنها. غير أنني حسمت ترددي لصالح الإفصاح عن هذه الأعمال التي كان من المقرر لها أن تكتمل لتغدو إصدارات مثل بقية اخوتها من الإصدارات الأخرى لولا ظروف السجن التي تحد في غالب الأحيان من قدرة الكاتب على إنجاز كتاباته بالشكل المناسب.

أبدأ بمشروع كتاب كنت قد شرعت بالعمل عليه في السنوات الأولى لاعتقالي تحديدًا منذ أواخر العام 2004..أي عام؟؟ وأسميته مبدئيًا (ليالي جلبوعية) حيث كنت أتواجد في سجن جلبوع مدة ثلاث سنوات تقريبًا، وكان السجن حديث العهد بعد افتتاحه رسميًا في أواخر العام.

كنا في ذلك الحين لا نزال شبابًا متدفقين بالحماسة والمرح، ونسهر حتى ساعات متأخرة من الليل تمتد حتى ساعات الفجر الأولى، وشهدت تلك الليالي ذكريات جميلة وضحكات ومقالب الأصدقاء، وحكايات محفورة عميقًا في الذاكرة، وبدأت رصد تلك الحكايات والمواقف والأحداث الجارية بالسجن بأسلوب أدبي، وأنجزت سلسلة من الكراسات المتناثرة، غير أني لم أكن حينها مثابرًا في هذا العمل، وكانت التفتيشات والمداهمات المرهقة والتنقلات بين الأقسام والسجون التي يصاحبها مصادرة بعض الكراسات والأوراق، قد حالت دون متابعة المشروع، فتخطيت عنه، وبقي في حقائبي لسنوات، ولم أعد أذكر ما هو مصير ما تبقى من كراسات.

أما المشروع الثاني فكانت دراسة مهمة حملت عنوان اقتصاديات السجون)، وقد كنت أتبنى موقفًا بأن السجون تحولت إلى أسواق ومنشآت اقتصادية تعود -على اعتقاد الدولة العبرية- بأرباح تقدر بعشرات الملايين من الشواقل، وأن الاحتلال لم يكتفِ بتحويل الأسرى لورقة مساومة سياسية وحسب، وإنما أيضًا تحويلنا إلى مادة تدر عوائد مالية، وذلك من خلال إغراقنا بالمواد الاستهلاكية، وابتزاز وسلب مبالغ عالية ضخمة من خلال رفع أسعار مواد الكانتينا، وتقليص ما تقدمه إدارات السجون لنا من طعام ومواد تنظيف وملابس ودفعنا لشرائها من الكانتين.

بدأت الدراسة في بداية 2007 في سجن (ريمون)، وسعيت للحصول على وثائق ومعطيات وأرقام دقيقة من وزارة الأسرى والمؤسسات، وفحص من حوالات الأسرى ومصاريفهم في اليوم والشهر والسنة، وصممت استمارة بحثية وزعتها على أحد الأقسام لإجراء الدراسة، ومن خلالها يجري تقدير مدخلات الأسرى واستهلاكهم.

غير أني تخليت عن هذه الدراسة لأسباب مختلفة، منها: أن مثل هذه الدراسة تحتاج إلى جهد وإلى طاقم مساعد، ومراسلة السجون لتزويدنا بالمعطيات، ولم تتوفر لدي الأرقام والمعطيات اللازمة، كما أن معظم الأسرى لم يتعاونوا معي في إجرائها، وألمح الكثيرين منهم أن مثل هذه الدراسات قد تلحق ضرراً بنا كأسرى، وتصورنا وكأننا عبئًا على أهالينا وعلى شعبنا، علاوة على انشغالي بالدراسة الجامعية، فتخليت عن المشروع.

أما المشروع الثالث فحمل العنوان (ايرائيل) فقد ولدت فكرة المشروع في العام 2010، كبذرة أخذت تنمو برأسي أثناء استغراقي في قراءات الميثولوجيا والمعتقدات الدينية البشرية وهيمنت علي لسنوات، وأخذت تتعزز لدي قناعة بأن مجمل التراث الديني والثقافي اليهودي التوراتي ما هو إلا اقتباسات من معتقدات دينية مختلفة أبرزها المعتقدات والتراث الثقافي الكنعاني القديم، وأن مسمى إسرائيل ما هو إلا تزواج بين اسمين كنعانين قديمين (عشيرا- يل) (اشرا- ايل) (اشيرائيل) (يشرائيل) الخ.

شرعت في عملية بحث مطولة استمرت لسنوات، وكانت هذه المهمة عسيرة في ظل شح المراجع اللازمة في السجن، وقد اعترتني الحيرة في كيفية كتابة المشروع. فتارة أبدأ به كدراسة بحثية تاريخية، وتارة أشرع به كرواية أدبية تاريخية تعود إلى أربعة آلاف عام للوراء، أي ما قبل ظهور اليهودية، ولكن في كلتا الحالتين واجهتني إشكالية المراجع والوقت اللازمين لإنجاز الدراسة أو الرواية، بعد أن عجزت عن متابعة المشروع لعدم توفر المراجع والوقت الكافي، إلى جانب انشغالي في المهام التنظيمية والاعتقالية وانهماكي بمشاريع كتابية أخرى. 

والآن ظلت الفكرة تلح على الذهن لسنوات، كان يتعين علي التحرر منها، إما بالتخلي عنها نهائيًا، وإما بالكتابة عنها ولو بشكل محدود، إلى أن قررت في صيف العام 2018 نشر مقالة مطولة بعنوان (اشيرائيل) وضمتها فكرتين عن الموضوع ونشرتها أمام الجمهور وعلى أمل أن يتابعها أحد غيري من المهتمين.

أما المشروع الرابع الذي تخليت عنه فيقع تحت عنوان (ملح وماء)، وهو يلخص رحلة الإضرابات عن الطعام في السجون، حيث يخوض الأسير المضرب عن الطعام صراعًا مزدوجًا مع الذات ومع السجان، وهنا تكمن أهمية الإرادة في هذه المعركة، كما أن يتولد لدى الأسير المضرب الكثير من مواطن القوة في أغوار نفسه، وكان لا بد من رصد العالم الجواني للأسير أثناء الإضراب.

ولدت فكرة المشروع أثناء مشاركتي في إضراب العام 2011 وهو ثاني إضراب أخوضه بعد إضراب العام 2004، ومرة أخرى تملكتني الحيرة في أسلوب الكتابة، إن كان ينبغي عليّ أن أكتب عن تفاصيل الإضراب والحديث عن الوقائع والأحداث والتطورات، أم على شكل رواية أدبية.

ولم ألبث أن شاركت بإضراب جديد في نيسان 2012، وهو إضراب أكثر زحمًا وأعمق تجربة من الإضرابات السابقة، وكلما عزمت على المباشرة في الكتابة كلما برز ما هو جديد على صعيد الإضرابات، فقد انتشرت ظاهرة الإضرابات الفردية منذ أوائل العام 2012 وشكلت حالات بطولية استثنائية تستدعي تمثلها، واستمرت هذه الظاهرة حتى اليوم، وشملت أعدادًا كبيرة من الأسرى الذين خاضوا هذه التجربة، وسجلوا بطولات خارقة، الأمر الذي جعلني أتريث في متابعة الكتابة.

ثم شاركت بإضراب العام 2016، وهو أيضًا تجربة مميزة، وأضافت المزيد من الإيحاءات الأدبية التي من الممكن أن تساهم في إنجاز المشروع على نحو أفضل، ولم نلبث أن شاركنا في إضراب العام 2017، وهو أيضًا من الإضرابات المميزة، ومن خاض هذه التجربة بوسعه أن يلمس الفارق بينه وبين الإضرابات السابقة.

ومع الوقت تعززت لدى قناعة مفادها أن ما خضناه من معارك الأمعاء الخاوية، يشكل حلقات من سلسلة طويلة؛ لهذا آثرتُ تأجيل المشروع أكثر من مرة وتركته للزمن. 

يتعين على أخيرًا الإشارة إلى أن ثمة مشاريع أخرى متنوعة في حقول الأدب والسياسة والتاريخ والفكر، كنت قد شرعتُ بها ولم أكملها، وبعضها طواه النسيان، ولم أعد أرغب في إكماله، وبعضها لا يزال يلح عليّ، ولا أجد المساحة الزمنية الكافية للشروع في إكمالها في ضوء الانهماك في هموم وإشكاليات عالم السجن، والانشغال بأعمال كتابية أخرى.

ويبقى السجن بإجراءاته القاسية هو المسؤول الأول والأخير عن ذلك، ومعظم هذه المشاريع التي سيظل يساورني القلق لعدم إنجازها، مع أنني أؤمن بأن المحاولة تكفي وتريحني ضميريًا، ويقتضي تحمل المسؤولية عن ضياع مثل هذه الكتابات، وعدم توفر الإمكانية لإخراجها إلى النور.

كميل أبو حنيش 

سجن ريمون الصحراوي