كتب الأسير المقدسي شادي الشرفا من خلف زنزانته في سجن جلبوع..

بين الأسر والتحرر والوعي المقاوم

cb831d390b52888707cbf46367b77abe.png
المصدر / السجون-حنظلة

تم تسجيل اعتقال أكثر من مليون فلسطيني بين العامين 1967 – 2020، وهذا رقم رهيب مقارنة مع عدد السكان الفلسطينيين. من هنا فإن أكثر من 40% من الرجال الفلسطينيين – عدا عن النساء – قد مروا بتجربة الاعتقال، أي أن حياة معيلي العائلات الفلسطينية تحت سيطرة القوة العسكرية للاستعمار – الاستيطاني الاسرائيلي، وقد أنتج هذا العدد الهائل من الأسرى مصفوفة السيطرة على السكان الأصلانيين التي تشبه العبودية.

والملفت للنظر أن دولة استعمارية نووية تملك أكثر من 200 رأس نووي تخشى من "حفل استقبال" لأسيرٍ محرر..هذا حال الشعب العربي الفلسطيني في مواجهة الاستعمار- الاستيطان الصهيوني والذي يمتلك رابع أقوى جيوس العالم، فيما ترتعب أركان الدولة العبرية تستنفر أجهزتها أمام مهرجان استقبال أسير محرر في قلب العاصمة الفلسطينية القدس...فما هي الدلالات والأبعاد؟ 

1- استفتاء على خيار المقاومة:

إن الحشود الجماهيرية التي تصطف لاستقبال الأسير المحرر تشكل حالة استفتاء غير رسمية على خيار المقاومة. فالأسير الفلسطيني يعبر عن خط نضالي وفدائي وتضحوي، فوجوده في الاعتقال ناتج بالضرورة عن نشاط رافض للسياسات الاستعمارية الصهيونية ذات الطابع العبودي، نشاط يغلبه الطابع الثوري والعنيف خاصةً إذا أمضى سنوات طويلة في الأسر. فالعقل الباطن للجماهير الفلسطينية يميل للبعد النضالي والكفاحي، لأنه على الأقل يجسد قيمة وطنية وكرامة أخلاقية وإعلان سياسي واضح ورد اعتبار على منطق الاستعمار. وهذا يشكل رسالة للقيادات التي تهرول نحو أي تسوية كانت: بأن نبض الشارع وميوله وتعاطفه يميل نحو المقاومة ضد النظام الكولونيالي الجائر. 

2- إجراءات الاستعمار وأجهزته الأمنية:

 تسعى القوى الاستعمارية عادةً إلى إخضاع الشعوب المستعمَرة وقمعها واضطهادها وإلغاء مظاهرها الوطنية والقومية. وإجراءات التضييق على المناضل المحرر تأتي في سياق النشاط الاستعماري الذي يصيغ مربع التدخل في كل التفاصيل الحياتية اليومية للسكان الأصلانيين، وللمناضلين بشكل خاص وليس فقط من منظورمصادرة فرحة الإفراج، حيث يحاول المستعمِر فرض شروطاً لتضييق الحيز الزماني والمكاني على الأسير عبر سلسلة إجراءات تبدأ قبل الإفراج، حيث يتم استدعائه للتحقيق مع ما يسمى جهاز الشاباك - والذي لا يختلف بالمضمون عن الشرطة السرية "ألغستافو" للنظام النازي. فيهدد الأسير وعائلته بل ويعبر كما في أكثر من حالة وبدافع من الحقد والعنصرية، عن رغبته في موت الأسير على أن ينال حريته. ثم يسعي لفرض شروط واتخاذ إجراءات تعسفية عند تحرر الأسير منها: احتجاز الأسير لساعات أو أيام وأحيانًا تمدد اعتقاله بنظام الحكم الإداري. ثم تنهال الشروط مثل منع دخول الضفة لأسرى القدس والـ48 أو العكس، أي إبعادهم إلى الضفة! وتارةً تفرض الحبس المنزلي، وتارةً تفرض منع مظاهر الاحتفال من أعلام ورايات، فدولة نووية تخشى الراية الصغيرة والبوستر؟ تارةً أخرى يتحالف القضاء الصهيوني مع الأجهزة الأمنية ليصدر قرارات بمنع التواصل مع الإعلام أو الحديث على شبكات التواصل الاجتماعي، وكثيراً ما يتم إعادة اعتقال الأسير عبر مداهمات ليلية وتخريب لممتلكات المنازل والاعتداء على أهلها.

3- المثقف المشتبك:

تحاول أجهزة الاستعمار - الاستيطاني زيادة درجة العبء على المناضل المحرر من خلال سلسلة من الإجراءات التعسفية، لترسيخ دعائم السيطرة الكولونيالية والاستعباد، فيما يأتي دور الأسير المحرر بأن يتحدى هذه الإجراءات.. فهو فرد في مواجهة دولة. وما جرى مع الأسير المحرر الرفيق مجد بربر من القدس بعد قضاء عشرين عامًا داخل الأسر يشكل حالة استثنائية لها دلالات ومعاني في التحدي وعدم الرضوخ. فمجد، المناضل الأكاديمي والذي نال شهادة الماجستير داخل المعتقلات، يقدم نموذجًا ليس فقط للأسير المحرر، إنما أيضًا للمثقف في الخارج. يقول عليك أن تدفع الثمن; وعليك ألا تخاف; وأن ترفض الإملاءات والشروط المذلة التي تفرضها المخابرات الصهيونية. فلا يكفي أن تكون مثقفًا، بل أن تكون مشتبكًا، وأن يكون لديك الاستعدادية العالية للتضحية، وعلى كل فرد أن يشكل ثقافة نضالية مشتبكة مع الاستعمار خاصة في ظل تراجع الأطر التنظيمية، فمستوى تضحية الفرد الفلسطيني باتت أوسع من استعدادية القيادة الفلسطينية للتضحية. والمثقف الحقيقي هو المشتبك والمتحدي في الميدان وليس بين طيات الأوراق فحسب.

4- الأسير حالة تفاعلية أم انفعالية؟

رغم الضغوطات والتهديدات وإعادة الاعتقال، ورغم ظروف مجد العائلية حيث أنه أبعد عن عائلته مدة 20 عامًا ومنع من ابنيه منتصر وزينة واللذان كبرا بعيدًا عنه، فإنه رفض الشروط المذلة وفضل إعادته إلى المعتقل على أن يرضخ، وهذا جسد حالة تفاعلية مع قضيته وشعبه ومع الحالة النضالية ومع واجبه الوطني والإنساني، رافضًا مطاوعة الاحتلال المستعمِر موجهًا رسالةً إلى مضمون نضالنا الذي تحول إلى نضال انفعالي وليس تفاعلي، يغلبه الثأر والانتقام والرد. مجد وغيره من الأسرى يعطونا دروسًا للحالة الشعبية لكي تنتقل من الحالة الانفعالية إلى التفاعلية، هذه رسالة هامة وتحمل دلالات كثيرة مليئة بالتحدي في سياق تفكيك المشروع الاستعماري الصهيوني.

5- أسرى الشعبية والمسؤولية الكبيرة:

منذ سنوات تضاعفت الهجمة الشرسة في إدارة مصلحة السجون وأجهزة استخباراتها على أسرى الجبهة الشعبية. ليس القصد تفضيل فئة معينة من الأسرى على أخرى، لكن هذه حقيقة ساطعة..يدَّعي مدير استخبارات السجون في عدة لقاءات مع الأسرى بأن أحد أبرز إشكالياته مع الجبهة ليس فقط انضبائهم بجسمٍ موحد ورفضهم التعاطي والتساوق مع رغبات الإدارة والتحدث معهم بشكل مفتوح، إنما أن غالبية الأسرى المحررين من الجبهة يعودون إلى "العجلة" النضالية. من هنا تنبع إجراءات القمع والنقل والعزل، وأسرى الجبهة موضوعين تحت الرقابة الدائمة وما جرى مع الرفيق مجد يستدعي زيادة الوعي لكيفية قراءة الاحتلال للرفاق وآلية التعاطي معهم. رغم هذا وذاك، تعجز مؤسساتنا الفلسطينية عن احتضان الأسرى كما يجب عند تحررهم، كما أنهم مغيبون عن صنع القرار الوطني. يذكرنا هذا بما قاله الشاعر النواب: "وأجانبُ مهما نقاتل" ؟ 

6- الهجمة على القدس:

في سياق المشروع الكولونيالي تتعرض القدس إلى هجمة شرسة من تهويد وأسرلة وتوظّف كاف استراتيجيات السيطرة على الحيز المكاني والزماني للسكان الأصلانيين، ويسعى المستعمِر إلى تفريغ القدس من محتواها الوطني، لذا هنالك هوس أمني مبالغ فيه يصل إلى درجة "البارانويا" ضد أي تعبير قومي أو وطني. فالقدس بشكل عام مستهدفة، وسلوان من أكثر المناطق استهدافًا، وأي مظاهر وطنية أو حتى احتفال بالإفراج عن أسير تجعل من أجهزة الأمن الصهيونية تعيش حالة من الهلع والخوف بسبب البعد العنصري العميق للكيان الصهيوني المجبول بالأسس الإثنية والفوقية.

7- صورة الانتصار:

تسمى بالعبرية "كمونات نفتاحون" أي صورة الانتصار، وهي المشهد النهائي التي تحاول الدولة المستعمِرة الصهيونية بثه أمام الجماهير. فهي تريد صورة المناضل المكسور والمحطم والنادم والمذَل والخاضع والمجرد من البعد الكفاحي. فمعركتنا معركة تفاصيل والمستعمِر يريد أن يصل إلى مستوى صفري في الفعل الجماهيري ويحاول كسر أي حالة تريد الخروج عن النطاق المألوف والإطار السائد. فيما تحدي مجد وهتافه حين إعادة اعتقاله يُجسدِّ "صورة انتصار" مفادها فشل كسر الإرادة، فالمعتقلات تجسد حالة معركة الإرادات، وهذا التحدي والهامة المرفوعة تشكل نقاط مضيئة لنضال وطني ورديفة للخنوع والاستسلام مهما كان الاستحقاق. وحقيقةً يأخذ الصمود في الأسر طابعان: الأول هو الصمود في التحقيق; أما الثاني فهو عدم الانكسار وتغييب القناعات أو اليأس بالنضال. 

8- هل يجوز للمناضل استراحة؟

الانحياز للنضال الوطني وتأكيد الانحياز بعد 20 عامًا في الأسر لم تعد مسألة دارجة في حالتنا، وليس مطلوبًا من المناضل أن يحمل عبء النضال وحده، لكن علم التاريخ وتجارب الشعوب المناضلة أثبتت أن الفئة المناضلة محدودة، وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها. فالنضال وامتشاق البارودة ليس مجرد خيار إنما هو وجدان وروح مزروعة في جينات المناضل، فلا حياد ولا استنكاف خاصة للمؤدلَج والمشتبِك بقناعة راسخة بحتمية الانتصار. هناك رؤيتان في هذ الصدد: الأولى مفادها أن عقودًا من الأسر تُحرر الأسير من مسؤولياته النضالية لتأتي مسؤولياته العائلية، فيما الثانية تؤكد أن حمل مسؤولياته تضاعفت وتكرَّست بعد سنوات الأسر سواء على المستوى الوطني أم على المستوى الأُسري. من هنا نستنبط أن المناضل "الحقيقي" لا يتقاعد مهما صعبت الظروف.

9- البطل الحقيقي:

القيمة البطولية للأسير محفوظة، وشعبنا أصلاً يضع هالةً شبه مقدسة على الأسير الفلسطيني، لكن حقيقة الأمر أن البطل الحقيقي هي المرأة الفلسطينية..أم الأسير وزوجته وأخته وبنته. فتحية لفاطمة زوجة الأسير مجد الصابرة والصامدة والتي تحملت درب الآلام على مدار عشرين عامًا دون أن تكل، تحية إلى زينة بنت الأسير مجد والتي لم تعش يومًا في حضن أباها. هاتان هنَّ نون النسوة وتاء التأنيث الملهم للحالة النضالية كلها.

الأسير: شادي الشرفا

سجن جلبوع