كتب الأسير محمد الزعنون من زنزانته في سجن ريمون الصحراوي..

ما السجن إلا موتٌ متقطع

IMG_٢٠٢١٠٣١٧_١٠٠٤٢٣.jpg
المصدر / السجون-حنظلة

أرادوا لنا السجن قبرًا..

فصنعنا منه الحياة..

أرادوا لنا السجن يأسًا...

فصنعنا فيه سمفونية للحياة..

في السجن يصبح الموت الطبيعي هو الازدهار والتغيير الوحيد والممكن عن الصدفة. والموت السريع هو الفاصل الزمني الذي يعبث ذهابًا وإيابًا في قوانين الطبيعة التي فعلت فعلها في التعديل الجيني والوراثي..

هنا تموت الحكايا ويهرم الجسم ويتداعى الجسد ويكبر العمر بين ممكن ومستحيل وتُغتال الأحلام..وتُشنق الرغبات في حبل ناي وتُقتل الأحاسيس وتُصلب العاطفة ويغزو رأسك الشيب ويذبل الوجه تحت العين وأعلى الوجه.

يكبر أخاك الصغير على حين غرة وتتزوج أختك الصغرى وتنجب طفلًا، وتسميه تيمنًا باسمك، تموت الأخت في مخاض الولادة، فيرفض العقل الباطني أن يستقبل الطفل ويحمله المسؤولية عن موت الأم، يتدخل الوالد ومن بقي من العائلة وبعضٌ من الأصدقاء..تفشل كل المحاولات والنداءات وتُغلق الأبواب والنوافذ، يأتي العم الشهيد مع صحبة الأم المتوفاة في الحلم، على صهوة جوادٍ حاملين الطفل، ويأتي صوته الملائكي عبر الأثير هاتفٌ "خالو.. أنا بحبك وبموت فيك وينتا بدك تيجي عنا أنا بحبك...انت عمري يا خالو".

يبدأ التعلق بالطفل رويدًا رويدًا لدرجة لا يكاد يمر يوم إلا أن يهاتفه، وإذا مرَّ يوم دون ذلك يشعر بالضيق والاختناق ويدخل في موجة هستيرية من الحزن، تتشابه في بداية العام ونهايته، في حزنٍ لا تحمله جبال على استشهاد عمه الشهيد الذي استشهد في ساحات الوغى، والثانية والتي تعتبر أشدُّ فتكًا ووجعًا على وفاة والدته...وهنا يأتي دور القدر، حيث يصادف وفاة والدتي بذات اليوم والشهر، ومع حجم الألم والمأساة إلا أن البسمة لا تغادر ولا تفارق محياه. لكنها مجبولة بهم الفراق لا يشعر به إلا من سكن الألم وذاق طعم اليتم وتجرَّع كأس الفقدان.

وما يعزيني ويواسيني بعض الشيء هو عندما ترى من حولك جموع الأسرى من كافة الشرائح والفئات والمناطق والأعمار، فأنت شاهدٌ على ذلك الطفل الذي شبَّ وترعرع أمام ناظريك وأصبح شابًا بلغ الحُلم.

ليس وحدنا من فقد عزيزًا أو شهيدًا ولا نحتكر الألم ولا نجاهر في الحزن، فلا يكاد بيتٌ فلسطيني إلا وذاق مرارة الألم حتى أن الحزن أصبح ضيفًا ثقيلًا علينا.

تنظر في السماء عسى أن ترى نجمًا أو قمرًا شيئًا بهيًا، لكن تمنعك الجدران الصلبة والأسلاك الشائكة والأبواب الموصدة والنوافذ المغلفة والسماء المسيجة، تتعطل حواسك، تنظر في نصف المرآة على الحائط، تتحدث معها بصمت الرجال، تبني معها علاقة وتسألها في خجلٍ منها في لحظة طيشٍ عابرة تمتد لحافة الجنون وتدخل في موجة من الضياع والطوفان، ثم تسأل نفسك كم من رجل ورجل وقفوا طوابير طوابير وباحوا بأسرارهم، معاناتهم، أفراحهم وأتراحهم، هواجسهم، واضطراباتهم، طموحاتهم وأمانيهم وأحلامهم...

وأخيرًا..أعلم أنني أكتب عن رفيقي وصديقي الذي عشت معه طول هذه السنين داخل هذه الجدران تقاسمنا الألم والفرح والنضال لهذا اعذروني لعدم كتابة اسمه ولكن اعلموا أن هذه قصة من قصص الأسرى المليئة بالألم والوجع كما هي باقي قصصنا نحن معشر الأسرى، ولكم كل التحيات.

 

الأسير محمد الزعنون

سجن ريمون الصحراوي