قصيدة يكتبها الأسير الأديب كميل أبو حنيش قي رثاء الجدة عريفة في ذكرى رحيلها الثانية

نيسان عاد ولم تعودي

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

قبل عام كان قد أرخى الظلام سدوله

في مقلتي ونحن في عز النهار

تأتي إليك بشارة الموت المهيبة

في انسيابتها الجليلة

لا سبيل لديك

إلا الانزواء ولو قليلا

كي تخفف وقعها

فالموت موت هو اسمه

منذ البداية والنهاية

لا يطرق الأبواب يأتي هكذا

من دون اذن او حياء او رجاء

تصغي لصوت هسيسه

ويعض قلبك يضرم النيران

في أحشاء صدرك ثم يمضي

تاركا من خلفه هذا الرماد

لا شيء بين يديك ينبت

بعض أزهار لتنمو

غير أشعار تطير

كغيمة محمولة فوق الرياح

هل يقرءون الشعر للموتى

ام الموتى قوافي في القصائد

وكيف يبدو الموت في تلك النواحي

وهل استرحتِ الآن من بعد العناء

ولما سئمتِ الانتظار

وأنتِ قارئة الفصول

وأنتِ قارئة النجوم

وأنتِ قارئة الجهات

***

الوقت فجرٌ فانهضي

القمح ينتظرُ الحصاد

وموسمُ الزيتونِ يسأل:

من يجيءُ إلى القطاف؟

والوقت يسأل:

من يزاول مهنة الخبز العتيقة

من سينثر للحمام القمح ؟

ومن يصلي للغمام؟

الم تقولي أن هذا العمر اخضر

فلما مضيت اذاً

ولما تكملي بعد

قصة خرافة الدنيا

التي تقضي شريعتها علينا بالشقاء

لنرتوي بختامها بالموت

لم تكملي فصل الخرافة

في نهايتها السعيدة

لم تقولي :

كلنا أبناء هذي 

 نحيا نلهث باحثين عن السعادة والحنين

إلى بدايات الزمان لنعود يوما متعبين

إلى التراب وقد تسائل:

أين كنتم؟ لا نجيب

لأننا لا نملكُ اللغة القديمة للتراب ولونه 

مع أننا كنا تراب

وكلنا نغدو تراب

ولا سبيل سوى النهاية والسبات

***

والله يكتبنا حروفا كي نفتش عن لغات في الوجود

وعن دروب غير خاتمة التراب

وننسج القصص الطويلة

عن خرافة كل شعب في الزمان وفي المكان

وكل قوم يبرزون وثيقة في الانتماء إلى السماء

ليملكوا هذا التراب

ويكتبوا سفر البداية في الحكاية

" ولشعبه المختار قد كتب الوصية في القداسة والبلاد "

يأتون من وسط الخرافة كي يعيشوا

وهم آثار الرعاة على التلال

ويغيروا اسم الشقائق والنبات

***

وهناك حيث مضيت نحو عوالم الأموات

حيث يكون هذا العالم المسكون بالصمت المهيب 

وقد يكون محطة للإنعتاق

أو البريد إلى السماء

فلتسأليه نيابة عن كل من عاشوا سدا :

كيف السبيل إلى المعاني

وهي تلمع في الوجود كما السراب

ولتسأليه نيابة عن كل من ضاقت بهم سبل الحياة:

لما الشقاء لما الحروب لما الوعود

لما البداية والنهاية والدموع

لما النعيم لما السعير

لما الحياة لما الممات

***

وعلميني أن أهجأ أبجدية ذلك الموت الغريب 

إنا المرابط في الدوائر

في حمى أبديتي السوداء

حتى اقتفي اثر الدروب المفضيات إلى الضياء

فان لي أملاً بأن امشي طويلا في السهول وفي الجبال

واشم رائحة النساء

واعشق الأطفال والأزهار

وأقول: إن السجن منفى

للذين يفتشون عن المعاني في الضباب

ويبحثون عن الحقيقة في السراب

والسجن مثل الموت يلمع في ثنايا نيله

أمل الإياب والانبعاث

ننسل من عدم السجون أو القبور

إلى النجاة وشهقة الحرية الأولى

لنكمل ما تبقى من خلود ومن حياة

وأقول إن الموت درسُ الكائنات

لكي ترتب وقتها

ولكي تُسائل نفسها

إن كان من مغزى ومن حلم

يراود ليلها في الإنعتاق

والموت مثوانا الأخير

وحقنا الأزلي أن نحيا قليلاً

نحتفي في هذه الساعاتِ من أعمارنا

نأتي إلى الدنيا خفافاً

نزرع الأشجار والأبناء

نزرع ظلنا ونشيدنا

نلهوا طويلاً كي نجرب حظنا

في رحلة العدم الطويلة

كي نُخلد صوتنا

وأقول: إن الحب تحفتنا الفريدة في الوجود

لكي نحس بأننا بشر

ولدنا كي نحب وكي نعيش

وكي نموت

والحب أجمل دائما في حضرة الجدات

وهن أجمل ما يجود به الجمال من الصفات

***

والشوق يقتلني إليكِ فعانقي حلمي

لأحلم أنني أمل جميلا بالرجوع 

وعاتبيني مثلما دأبت عليه

وداعةُ الجداتِ للأحفاد:

ولما التأخرُ يا فتى ومتى تعود

أكلُ هذا الوقت تمضي غائباً

لما لم تعد من بعد أن أرخى الظلام خيوطه

قد حان وقت النوم يا ولدي الحبيب

ولا تغب عنا طويلا

عد إلينا قبل أن تتكاثر الغيلان في الطرقات

واصلي هذا العتابُ وقرعيني 

واملئيني بالحنين وخبئي قمرا

فينبت من ترابك 

خبئي هذا الحنين

لاشتهي يوما إيابي للتراب 

وأقول يا حبي المضرج بالوفاء

سنلتقي يوما كذرات تعانق بعضها بعضا على هذه الفلاة

***

وأسأل يا حبيبتي الجليلة 

كيف يبدو الموت في تلك الجهات

وهناك حيث العالم المخفي

وهناك حيث اللا هناك

وكيف يمكنكِ المجيء

ولو بحلمي كي تقصي علي

من شغف الحكايات المثيرة وحكاية الموت

التي استعصت على هذا الوجود

واهمسي إن كان هذا الموت غولاً أو هواء

أو كان من جنس الذكور أو الإناث

قصي علي حكاية الموت الغريبة 

ولتكن تلك الحكاية 

مثل سابق غيرها تحوى الطرافة والفضول

ولتكن تلك الأخيرة وريثما يحتلني هذا النعاس

  على ضفاف الموت

سأظل اذكر وهج طلتك البهية 

نيسان عاد ولم تعودي

فارجعي كشقائق النعمان في نيسان

خضراء مثل ربيعه واراك

في الغزلان في الزيتون في حقل السنابل 

واراك فيما أنجبت هذه الطبيعة من هبات

***

أبديتان إنا وأنت

مضرجين بصمتنا بين الهنا واللاهناك

وأنا هنا في عالم الجدران والأغلال حيث أدور

مثل زماني العاتي هنا وأنتِ هناك

حيث عوالم النسيان والصمت الجليل

وهناك حيث اللا هناك

 بلا دخول ولا خروج ولا ذهاب ولا إياب 

ولا شروق ولا غروب ولا أمام ولا وراء

وهناك حيث هناك نمضي كلنا

بختام رحلتنا الشقية

فوحده الموت الدليل على الحياة

ووحده من يملك المعنى المطل على العدم

ووحده من يضبط الإيقاع كي يلقي علينا 

لحنه البالي طويلا

وحده من لا يُخبئ وجهه

لا يستكين ولا يلين

ولا يكل ولا يمل

ولا يعيش ولا يموت

وحده من لا يصلي للجهات

وقد غدا جهةُ الجهات

ووحدنا في الكوكب النائي بعيداً وحدنا

نحيا قليلاً كي تراودنا الخرافة والتجلي

نحيا لنسأل إن ولدنا ذات يوم في الوجود نحيا 

لكي نجرب أن نعيش بهذه الدنيا المليئة بالسدود 

وكي نسائل نفسنا إن كان هذا الموت

يشبه برزخاً للانتظار وسلما نحو الطريق

إلى الخلود

وهناك حيث اللا هناك

لا شيء غير فراغنا

لا شيء غير سرابنا

لا شيء غير الحلم في سبل النجاة 

***

ويا عريفة ضلي هنالك

فليس أجمل من نهاية 

قصة مجهولة في عالم الموتى الذين نجلهم 

وانأ هنا أبديتي فيها مجاز للحياة

سأواصل الحلم الجميل بالانبعاث 

سأزور قبرك ذات يوم

واذرف الدمع الغزير على ثراك

أتلو عليك بما تيسر

من فواتح أو قصائد

واصم حرف النون في القران

إكليلا من الآيات والأزهار

فوق تراب قبرك

وريثما آتي إليك

سأظل احلم أن لي حرفا

سيفتح قفل أغلالي الثقيلة

ولن اكف عن المجيء إلى بلاد الحلم

والذكرى البعيدة

فلك الخلود لكِ السكينة والنعيم لكِ البقاء 

ولي الطريق إلى الفصول وما تبقى من حياة

وما تخبئه لنا من كل أصناف المتاعب والشقاء

أو موائد باذخات في السراب

لا تصبي الشاي يا قمري البعيد

لا تنطريني فأنا سأحيا كي أحبك كل يوم

أبقى أزاول مهنة المتفائلين

بان هذا الليل يخبو تحت أنفاس الصباح

وان في هذي البلاد وعلى ثراها

نستحق بأن نعيش وان ترافقنا الحياة

 الأسير: كميل أبوحنيش

سجن ريمون الصحرواي