كتبت الأسيرة المحررة دعاء الجيوسي..

محاولات

GettyImages-1129703430.jpg

بقلم : دعاء الجيوسي

الأربعاء 2021/2/17

لا أذكر أنني في حياتي الماضية فترة ما قبل السجن والتي تبدو لي الآن كصور شبحية تتلاشى شيئاً فشيئا قد فضلت فصلاً من فصول السنة على آخر، كانت الفصول والشهور بالنسبة لي سواء كلها أيام تمتزج فيها حميمية الحياة الأُسرية بإندفاع الشباب وتقلبات الحياة الدراسية والرحلات التي لا تنقطع صيفاً ولا شتاءً صوب قرى الكفريات في محيط طولكرم أو مدن الداخل المُحتل وعلى هذا المنوال عشت أيامي حتى وَلجت عالم السجن وهو بإختصار عالم المتوازيات والصور المترادفة عكساً فلكل طقس من طقوس الحياة الطبيعية صورة معكوسة في حياة السجن....تناول الطعام...قضاء الحاجة....غسل الملابس وحتى التفكير في توافه الأمور وعظائمها كلها لها أشكال ومسارات وصور بديلة ومعكوسة.....

في السجن تعلمت التفريق بين الفصول وتَلمس تناقضاتها وإنقلابات أيامها....

كان الصيف بالنسبة لي موسم الضَجر وضيق الصدر لأني لم أكن أفهم كيف يمكن أن يكون الصيف صيفاً دون المسارات الجبلية في قرية كور وولائم الشواء في ربوعها ورحلات الغرق لا السباحة في بحر مدينة إم خالد...وما ينسحب على الصيف ينسحب قطعاً على الربيع...أما الخريف فكان يأتينا في السجون كطارق ليل وجرس إنذار فترانا نغرق في جمع شتات أغراضنا ومحاولة تأمين الملابس والأغطية ونقلها بين الغُرف.

الشتاء بالنسبة لي كان فصل المحاولات ....كنت أحاول ترتيب حياتي ذهنياً وفقاً للنسق الطبيعي الذي يحياه البشر في فصل الصَخب هذا......

أما الشتاء بعد التَحَرُر فقد بات موسم إستذكار الآلام وإجترار المواجع التي إندلقت على رأسي فجأة ليلة أمس....هذا شتائي التاسع بعد الخروج من السجن الذي لم يخرج من روحي بعد ويبدو أنه لن يفعل ذلك أبداً....

يوم أمس ومع بدء دخول المنخفص قُدت سيارتي على طول الطريق الساحلي في القطاع كُنت أنظر للبحر فأراه غير ذلك الذي إعتدت الفشل في تعلم السباحة داخله في مدينة أم خالد....

الليلة وبينما الريح تعوي بضراروة في الخارج لا أدري لماذا تذكرت فجأة (بُرشي ) في سجن الدامون....ترى مَن مِن الأسيرات تستخدمه حالياً....خطر ببالي باب الزنزانة وصريره عند الفتح والاغلاق....تذكرت حياة السجن فجاءت الصور في رأسي نقيةً وواضحة على عكس الصور الهلامية التي ترتسم أمامي إن حاولت تذكر حياة ما قبل السجن....

قبل أيام وصلتني رسالة من سجن الدامون تشتكي فيها الأسيرات من رداءة مرافق السجن وتَسرب مياه الأمطار إلى ساحته الرئيسية وقد تعاملت وزملائي في مركز حنظلة مع الرسالة...المهم أن أمطار الليلة وهي تضرب شباك بيتي بتوتر وعنف قد سحبتني سحبا للأيام الخوالي فرأيت نفسي بنت تسعة عشر عاماً مشبوحة في الجلمة والبرد ينخر عظمي واحتل حيز صوت المطر في أذني صوت صراخ وصراخ مضاد يَعِد بصمود لا ينقطع ربما هو صوت المقموعات في ساحة الشارون أو المعزولات في زنازين الدامون والمرتجفات برداً في كل السجون.....أو قد يكون صوتا مخبوء في داخلي هو الذي صم آذاني عن هدير الطبيعة في الخارج....

صباح اليوم بدا وكأن المُنخفض قد دخل مرحلة الذروة....صفير الرياح في الخارج يعلو وكل من في البيت لا زالوا نياماً...إستيقظت قبل الشروق كعادتي تفقدت أطفالي ودفء فراشهم وفتحت نافذة غرفة المعيشة عن آخره....عَطرت البيت ....أعددت قهوة الصباح ولكن بلا جدوى لا قوة الرياح المُندفعة من الخارج ولا فحيح زجاجة العطر ولا عبق القهوة هَزم رائحة الرطوبة التي تزكم أنفي أو أزاحها من رئتاي.....

إحتسيت قهوتي ولا زلت أتقصى حقيقة الرائحة الفَجة أتراها إرث الجلمة أو الرملة أو ربما هي ذكريات الشارون أو الدامون....أو قد تكون ذكريات ماض قاسٍ إتصل طرفاه فأضحى دائرة بحجم عمري يوصل أولها لآخرها وباتت آثار ماضٍ عشته ذكريات زمن قادم لم أعشه بعد.