كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من خلف زنزانته في سجن ريمون الصحراوي

متعبون حدَّ الإرتياح

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

تدهشني قدرتي على اليقظة من النوم في كل صباح ، بعد أن أكون في عالم الانطفاء التام . ومع أن العملية مألوفةٌ ، بيد أنها باتت تبعث على التأمل كلما تقدم العمر. فعالم النوم يشبه أي عالم آخر يهرب إليه المرء ، إما كعادة ، وإما لحاجة الاستراحة من متاعب الحياة ومنغصاتها، حيث يغلق عالمه المثقل بالهواجس ، ليفتح عالماً آخراً يستيقظ أثناء السبات وقد يكون هذا العالم منصة انطلاق أو فسحة للهروب إلى عوالم أخرى.
وحدها الكواكب والنجوم من تزاول مهنتها الأزلية في الحركة بلا سبات . فيما الراحة والتعب بقيت حصرٌ على البيولوجيا . غير ان الآلات الصماء تتعب هي الأخرى . ولكن ألا يحتاج الكون إلى استراحة واغماضة وهو يشهد كل ذلك الصخب العجيب. مع أنه صخب مغلف  بغلالة الصمت المهيب .
لماذا يبزغ الحلم أثناء النوم؟وماهي  تلك العوالم التي تستيقظ في أعماقنا ونحن نائمون ؟ وماهو الفارق بين الموت والنوم ؟ وأين تجري عملية تصريف متاعب الروح والجسد أثناء النوم ؟ أسئلةٌ في وسع العلم الإجابة عنها بعد إجراءه للأبحاث والتجارب ؟ أما الأدب فقد يكون له رأي مغاير . فالأدب بطبعه الكسول ، لا يكلف نفسه عناء البحث والتقصي ، ويكتفي بالإلهام والحدس والفذلكات وسلك دروبٍ خرافيةٍ تشجبها العلوم . فقد يقول لنا الأدب وهو يتثاءب في لباس النوم: الحلم عزاء الحالم وهو يحيى حالةٌ من الشفاء ، هو عالمه المتخيل وهو يرزح تحت ثقل الهواجس الوجودية . ثمة تشابه بين النوم والموت. فالنوم موت قصير ، وهو اختبارٌ وتدريب على الموت والانطفاء الأبدي . أما المتاعب فإنها لا تفنى ولا تستحدث وإنما تتحوّل- كالمادة - من شكل لآخر ، أو ترقد بسلام في مراقد الروح . 
اما الراحة فهي الشقيقة التوأم للتعب ، فيما النوم هو شقيق الموت والحب من جهة الأم والاب. هو طريق الهروب اليومي من عالم الفقدان والمتاعب إلى عالم الاستراحات الصغيرة . تلوذ إلى عالمه فراراً من الإجابة عن أسئلة خاطئة. حتى لا تكون الإجابات خاطئةٌ بالضرورة . أما سؤال الوجود فيحيلنا إلى غموضٍ وعلامات استفهام  تستعصي على الإجابة .
تهترأ أسمالنا ونحن نزحف بحثاً عن السعادة. وعن الحقيقة في الرد على سؤال مأساوية الحياة، فلا نظفر بأية إجابة. ولهذا نحن متعبون، ولفرط متاعبنا بتنا نشعر بإرتياح العاجزين عن مواصلة قرع طبول البحث . متعبون ونحن نرقض على حواف إنسانيتنا المتعبة ، التي يقضم منها الزمن اجزاءً ثمينة . ترقض الساعة البيولوجية للبشرية. لتنتهي ذات يوم بهدوء وسط دوامة من الحيرة والذهول . 
احتفي بإعيائي على حدود الانطفاء ، يمتصني الإرهاق حتى آخر رمق ، ثم لا ألبث ان أسدل جفني ، باحثاً عن راحة أجدها في النوم . ولن تؤرقني اليقظة لأنها حين تأتي ينتهي عالم النوم . أغادر عالماً وأستيقظ في عالمٍ آخر . فوداعاً لليلة امتصت متاعبي المزمنة وانعشتني بطاقةٍ جديدة . وحينما اتثاءب صباحاً بعد اليقظة ، يكون قد تثاءب عالمٌ آخر نعاساً، سيخلد مباشرةً للنوم . 
يهرب الناس إلى نومهم ، فتستيقظ عوالم أخرى . يموت عالمٌ ويحيى آخر مكانه . تدور الأرض ، ومع كل دورة تولد أشياء وتموت أخرى . لا تزال البشرية في مرحلة الطفولة . لا تزال تحبو في أحسن أحوالها . ربما ستطول مرحلة وصولها إلى حالة الإكتهال . ولهذا نحن لا نزال بحاحة للأنبياء. وبحاجة لأمٍ كونية لتهدهدنا قبل الذهاب إلى النوم . 
أذهب إلى نومي متدثرا باللامبالاة كما يفعل المتغابون تماماً . وهناك في عالم نومي سأحاول استنطاق عالم آخر  . أنصب مصيدة في طريق الأحلام لعلني أفلح في اصطياد حلمٍ يعبر بي إلى عالمٍ بكرٍ .
قد لا احظى بالعبور وأنا أحيا الواقع . قدماي راسختان على الأرض فيما أفكاري تطير في الآفاق البعيدة ، باحثةٌ عن صيدٍ في أدغال المعرفة . لعلها تجد ما يسد رمقها فتعود إلى مهاجعها متخمة .أفكاري تشبه نسورٌ محلقةٌ في الفضاء بحثاً عن طرائد محتملة .ينهكني المسير بحثاً عن حلولٍ للأحجيات . أستوقف قدراً لأسأله عن الطريق الذي سلكه في الوصول إليّ . فأجده أبكماً لا ينطق باي حرفٍ . مع أنه يمتلك بلاغة الحضور . وللأنني عاجزٌ عن فك لغز الزمن ، سأحيل نفسي للقدر . وكأن القدر بكماله وإكتماله يوفر علينا عناء البحث ، ويهبنا للإستسلام التام أمام سطوته . إنه النتيجة الحتمية للمقدمات التي ساهمت في نسجها ملايين الأيدي . لتصل إلى يدٍ واحدة تهدينا النتيجة القدرية النهائية وليس بوسعنا مقاومة اختراقه الصاعق.
أحتفي بحضوري الحزين في هذه الحياة مستذكراً ماضٍ قدره أن يظل يجيء . في دائرةٍ لا تنتهي من العبث وعلى تخوم هذه الدوامة المنهكة . نستسلم جميعاً لنخلد للنوم لنعيد دفن أوجاعنا المزمنة في مقبرة غير مرئية في قداسة الروح وهناك بوسعنا أن نشعر بالارتياح لكننا سنكون عندها متعبون حد الارتياح . 
وأنا مثل البقية متعبٌ حد الارتياح ، بعدما كنت مرتاحاً بمتاعبي.

كميل أبو حنيش 
سجن ريمون الصحراوي