كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة الخامسة عشر "مريم/مريام"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

رواية مريم/مريام هي الرواية الخامسة التي أكتبها من داخل السجن، وهي من أحب الروايات إلى قلبي، ليس لأنها حظيت باهتمام القراء والنقاد ونالت إعجاب الكثيرين، وليس لمضمونها وما حملته من رسائل ومواقف ترتبط بالصراع على الأرض وموضوع الهوية وإنما لسببٍ آخر، إنها ببساطة روايتي الأولى التي نسجتها مخيلتي منذ أكثر من ربع قرن ونضجت بذهني مع الوقت إلى أن خرجت بالشكل الذي خرجت فيه. 

سألني الكثير من الأصدقاء: لماذا صفورية؟ وكيف تسنى لك أن تكتب عنها من قلب السجن؟ لم تكن لدي الرغبة ولا الوقت للإجابة عن أسئلة، أجهل كيفية صياغتها، وحتى تبدو الإجابة مقنعة لي قبل أن تبدو مقنعة لغيري فتركت الأمر للزمن.

تعود بذور هذه الرواية لستٍ وعشرين سنة للوراء، في صيف العام 1994، أنهيتُ دراسة الثانوية العامة، وتوجهتُ إلى مدينة الناصرة في الجليل الفلسطيني، ولم يكن في ذلك الحين مسموحًا للفلسطيني من سكان الضفة والقطاع، دخول المناطق المحتلة من العام 1948، إلا من خلال التصاريح، وكان علينا اجتياز الحدود الفاصلة عن طريق التهريب.

وفي الناصرة عثرتُ على عملٍ في قطاع البناء، مع أحد المقاولين وكانت الورشة في مدينة حيفا، ومع كل يوم وأثناء مرورنا في الشارع الممتد بين الناصرة وحيفا، كنا نعبر من قلب حي في الناصرة يسمى (حيّ الصفافرة) وفي الطريق تطالعني لافتة كتب عليها بثلاث لغات، العربي- الإنجليزي- العبري(تسيبوري) ومع الوقت فهمت أن مستوطنة تسيبوري تقوم على أنقاض بلدة عربية تسمى صفورية، وأن سكان حي الصفافرة هم أهل البلدة الأصليين الذين جرى تهجيرهم والسطو على مكانهم في عام النكبة. 

كنتُ كل يوم أتأمل بيوت مستوطنة (تسيبوري) ببيوتها القرمدية الحمراء بين الأدغال والأشجار الخضراء، بيد أن المشهد لم يثر فيّ أي مشاعر خاصة، لأن سائر ما نراه من مستوطنات ومدن صهيونية كلها تقوم على أنقاض عشرات القرى والبلدات المدمرة، إذن صفورية ليست استثناء. 

كنتُ أسكن في ذلك الحين في الحارة الشرقية لمدينة الناصرة، طَرق باب مسكني ذات مساء، وكان يوم جمعة، وإذا بالمعلم جمال الصفوري، وهو مقاول القرميد، وكان يسكن في ذات الحارة وأعرفه عن بعد، سألني إن كنتُ أرغب في العمل معه يوم الغد، وليومٍ واحد وحسب. وافقتُ ولكنني أبلغته بأنه لم يسبق لي أن عملتُ في القرميد، لم يبد أي ملاحظة، واكتفى بالقول أنه يحتاجني لمساعدته بأعمال بسيطة. وحين سألته عن مكان عملنا أجاب بهدوء: في صفورية.

بعد أن غادرني تأملت المفارقة: فالرجل أصله من صفورية وسيعمل في خدمة من احتلوا بلدته وهجروا أهلها، كما لفت أنتباهي أنه قال: في صفورية وليس في تسيبوري فعندما تسأل أحدًا عن مكان عمله يرد عليك: في كرمئيل أو كريات آتا، أو نتسيرت عليت... الخ، ولا تجد من ينطق اسم البلدة الأصلية التي تقوم على أنقاضها المستوطنة، إذن فإجابة الرجل تنطوي على موقف وحنين وحزن وإرادة أيضًا. 

في الصّباح وصل الرجل إلى مسكني، والتقطني بسيارته، ومضينا إلى صفوريّة تأثرتُ بعمق ونحن ندخل صفوريّة، وشد انتباهي أدغالها الجميلة السّاحرة، ارتعشتُ قليلًا وأنا أتأمّل بيوتها الجديدة ولمع برأسي للحظة صورتها العربية المندثرة.

وصلنا إلى مكان العمل واكتشفت أنني أجهل أبسط الأشياء في عمل القرميد، وبالأخص مسألة قصّ الأخشاب الذي يحتاج إلى دقة متناهية (على الملم).

تشاجرتُ مع المعلّم جمال أكثر من مرة أثناء الساعات الأولى للعمل بسبب عدم دقتي في قصّ الأخشاب، وعند الظهيرة طلب مني قصّ "ميرينة" خشب بطول محدد وكان يومها يقف على السطح وعندما عاينها ووجد أنها لا تفي بالغرض قذفها في وجهي وأخد يصرخ عليّ. كان طرف الميرينة في يدي بينما طرفها الآخر لا يزال في يده، ثارت عصبيتي وشتمته وصرختُ عليه وأخذت أدفع بالميرينة إلى صدره لقذفه عن سطح البيت. 

أخذ يرجوني ويهدئ من عصبيتي، ألقيت الميرينة من يدي وأبلغته بأنّني لن أعمل معه، تركتُ العمل وجلستُ على حجرٍ بعيدًا عن البيت وأخذت أدخن السجائر، بدأت ثائرتي تهدأ بالتدريج وكانت صفورية بأدغالها وأشجارها وتلالها وما تبقى من بيوتها العربية القديمة تلوح أمامي، فيما البيوت الجديدة للمستوطنين فقد بدت نشازًا في المكان، تشبعت بمشهد صفورية وذهب بي الخيال بعيدًا، ورحتُ أتخيل زمن صفورية قبل النكبة استمرت هذه الحالة من التخيلات الحالمة لساعات وعند ساعات العصر جاء المعلم جمال وجلس بجانبي، اعتذر مني وأعطاني أجرة يومي ثم عدنا إلى الناصرة. 

من يومها بقي هذا المشهد في ذاكرتي، لم أخطط يومًا لكتابة رواية ما قبل السجن، وفي السجن وبعد إصداري لعدد من الروايات، فكرتُ في مشروع رواية أسميتها مبدأيًا "أرض السماء" وكلما حاولتُ اختيار مكانها وزمانها وأبطالها، ينبع تلقائياً مشهد صفوريّة المختزن في ذاكرتي جرّاء ذلك اليوم اليتيم. ومع الوقت أخذت تتشكل أحداث الرواية في مخيلتي، وبدأت تتمخض بهدوء إلى أن جاء وقتها. 

في صيف العام 2017، كنتُ حينها في سجن جلبوع، حين قررت المباشرة في كتابتها. فقد بتُّ أعرف الكثير عن صفورية من خلال كتابات ومؤلفات عديدة قرأتها عن النكبة، فعرفتُ أن صفورية قاومت العصابات الصهيونية ببسالة، وأنّها من البلدات القليلة، إن لم تكن البلدة الوحيدة، التي جرى قصفها في الطائرات كما أن أهلها لا يزالون على أرضهم، وعلى مسافة لا تبعد كثيرًا عن بلدتهم وهم يقطنون في حيّ الصفافرة في الناصرة. في شهر آب من ذات العام جرى نقلي إلى سجن ريمون، وهناك واصلتُ كتابتها إلى أن أنتهيت من مسودتها في ربيع العام 2018، وكان معي حينها في ذات القسم عدد من الرفاق والأصدقاء المهتمين بالأدب من بينهم: أحمد سعدات (أبو غسان) وليد دقة وناصر أبو خضير (أ.عنان) فاطلعتهم على مسودّة الرواية، وأبدوا إعجابهم بمضمونها ورسالتها، وسجل كل واحد منهم عددًا من الملاحظات والنصائح بشأن العديد مما تضمنته الرواية. 

وتحاول الرواية أن تعكس صدى الأزمنة في المكان (فلسطين) وتمثلها لإبراز قضية الهوية بشكلها الإنسانيّ والثقافيّ والتاريخيّ والوجدانيّ. فعادت الرواية إلى جذور اسم المكان فكانت مريم هي الاسم الأول لهذه البلاد –مريم هي الأم البكر التي أنجبت أبناءها وكافة مريمات المكان في التاريخ بما فيهن مريم أم يسوع، وكأن قدر مريم هو الفجيعة والفقدان وقدر أبناءها الصلب على مذبح التاريخ، كما أن هذه الأرض هي أرض وبوابة السماء بالمعنى التاريخيّ والميثولوجيّ والدينيّ تتشابك أزمنتها، التاريخية والأسطورية، والدينية لتعزز وقائع وصراعات. وكان آخرها الصراع القائم اليوم على هوية المكان ومحاولات المستعمرين الجدد طمس هوية أهل البلاد الأصليين والمتجذرين بأرضهم من آلاف السنين. 

فكانت مريم الصفوريّة العربية في صراعها مع مريام المستعمرة اليهوديّة الصهيونيّة يعكس وجهًا من وجوه هذا الصراع على المكان وهويته، وكان ابراهيم (ابرام) هو الحفيد المشترك للمرأتين والتائه بين الحكايات والسرديات، يحاول أن يجد له موطئ قدم على أرضية صعبة تتيح له التعرف على هويته الحقيقية ويعيش صراعًا نفسيًا مع ذاته لسنوات طويلة إلى أن يحسم قضية انتمائه وهويته، بمعزل عما تقرره السرديات. ومع حلول صيف 2018 كنتُ قد انتهيت من الرواية وصار ينبغي التفكير بطريقة تسريبها وراء الجدران ومن سيتولى طباعتها. كان لدينا هاتفًا أعمى (بدون شاشة) وبالكاد كنا نتمكن من العثور على نقطة للبث الهاتفي بسبب التشويش, ولكن عليّ أن أتدبر أمري بهذا الواقع الصعب، وفي هذه الأثناء تعرفت على فتاة جامعية اسمها رغد فنة, أبدت بحماسة استعدادها لتسجيل الرواية على هاتفها المحمول، والعمل على تفريغ التسجيلات وطباعتها لتكون جاهزة للنشر.

وبدأنا نعمل، كنتُ أقرأ فصول الرواية على الهاتف ورغد تسجلها على هاتفها. أنا أقرأ كل يوم لمدة ساعة وهي تستمع وتسجل وأثناء عملية التسجيل ولئلا ينقطع الخط من دون أن أدري بسبب عدم وجود شاشة للهاتف، كنتُ بعد كل عشرة دقائق أثناء القراءة أتوقف وأسأل رغد: 

- هل أنتِ معي؟ 
- فتجيب:
- نعم معاك...

وإذا لم ترد فهذا يعني انقطاع الاتصال مما يستدعي معاودة الاتصال وإعادة التسجيل من النقطة التي أنقطع عندها...

استغرقني تسجيل الرواية 15 ساعة تسجيل، على مدار 15 يوماً، وساعدني الرفيق حكمت عبد الجليل بتسجيل بعضها ثم باشرت رغد بتفريغ التسجيلات وطباعتها، وصودف أن والدها الدكتور أبو أحمد يحمل شهادة الدكتوراة في اللغة العربية وقد أبدى استعداده لتدقيق الرواية. 

احتجنا لأكثر من 20 ساعة أخرى في تدقيق المادة وإصلاح الأخطاء المطبعية نتيجة لرداءة الصوت في التسجيل بفعل التشويش، وكثيرًا ما وجدنا أنّ بعض التسجيلات بحاجة إلى إعادة، فنعيد التسجيل مرة أخرى، إلى أن باتت الرواية جاهزة بعد طباعتها وتدقيقها لغويًا. 

ومن الجدير بالذكر أنّ رغد تولت طباعة عدد آخر من أعمالي منها قصة قصيرة، وبعض الدراسات الأدبية والسياسية وقصائد الشعر، بلا أيّ مقابل، وتولى أيضًا والدها مشكورًا بتدقيق هذه المواد من ناحية لغوية وفنية وبلا أيّ مقابل أيضًا. 

انتهى العمل من إنجاز رواية مريم /مريام وكان اسمها حتّى ذلك الحين (أرض السّماء) وأرسلتها رغد إلى شقيقي كمال عبر الإيميل. والذي أرسلها بدوره للصديق المحامي حسن عبادي من مدينة حيفا، الذي قرأها وكتب مقدمتها، ثم أرسلت إلى دار الآداب في لبنان، ووافقت الدار على إصدارها واقترحوا عليّ تغيير اسمها إلى (مريم/مريام) لأن دار الآداب كانت قد أصدرت كتابًا باسم (أراضين وسماوات) قبل أشهر ووافقتُ على تغيير اسم الرواية إلى مريم/مريام، وتحدد موعد إطلاقها في السابع والعشرين من أيلول العام 2019 أثناء معرض الكتّاب في العاصمة الأردنية عمان. 

وجاء الموعد وحضر حسن وزوجته سميرة إلى جانب شقيقي كمال حفل إطلاق الرواية في موعدها في العاصمة عمان وهناك التقوا عددًا من الكتاب من بينهم المفكّر الدكتور فيصل دراج والكاتبة والصديقة العظيمة حنان باكير، ونال كليهما نسخة من الرواية وكتبوا عنها لاحقًا كما كتب عنها الدكتور والصّديق العزيز عادل الأسطة، وكتّاب آخرين كتبوا عنها منهم: رائد الحواري وفراس الحاج محمد وعفاف خلف وآخرين وعقدت ندوات وأنشطة إعلامية تناولت الرواية، شارك فيها عدد من الكتاب والأدباء منهم: عبد السلام صالح ومحمد المشي وصفاء أبو خضرا وأحمد أبو سليم ورشاد أبو شاور وآخرين. 

ومثل كل مرّة، كنتُ آخر من يطلع على الرواية، إذ وصلت يدي في قلب السّجن بعد أشهر طويلة وبعد معاناة كبيرة.
#كميلأبوحنيش 
#سجنريمونالصحراوي