كتب الأسير القيادي سائد سلامة من خلف زنزانته في سجن جلبوع..

على بوابة الحريّة

dvVCY.jpeg
المصدر / السجون-حنظلة

أخيراً جاء اليوم الموعود ودنت لحظة الحقيقة المتوهّجة، وها هي تنبلج من أنقاض الزمن المنفي، زمن التكوّر والانتظار، الزمن الذي ابتلعني داخل هوّته الظلماء سبعة عشر عاماً.
الغرفة تضج بالحركة المضطربة، وأنا في داخلي يمور ضجيج القلق اللامتناهي، الحركة الصاخبة للأفراد وكذلك حركة الأسرى الذين يتزاحمون على بابها تتصادى فيّ ارتباكاً وتأسرني داخل دائرة التوتر، حتى لكأنني أغدو سديماً يهيم فوق سديم.
"أحقاً ما يجري؟ أكاد لا أصدق"
مساحة الاحتمالات تضيق وتضيق حتى تظل نقطة واحدة، هي انعكاس الحقيقة التي تسطع في وجهي يقيناً لا يعتريه شك، الحقيقة التي أرتكب أجنحتها وأحلّق في فضاء استحقاقها الذي سيحين بعد قليل، ساعات قليلة وسوف أغدو حراً مُنبعثاً خارج هذه الجدران وخارج هذا الزمن المتآكل.
الأصوات تتداخل وتصطخب وأنا مشدوهاً غارقاً في غمرةٍ من الفرح الممزوج بالارتباك، لبُرهةٍ كابدت لكي احجب  قسماتي وأمنع عبراتٍ تذوب في عيني أن تنذرف وأنا أنحني لزاوية البُرش الداخلية لأنتزع إطار صورة والدتي، تلك الصورة التي اتخذتها رفيقة الوجع الذي أهمس به في خلواتي، هي التي صرت أعلقها قبالة ناظريّ أينما أقمت، بعد أن قال الموت كلمته وفارق بيننا إلى الأبد، في البداية ربما ما كنت أضع الصورة إلا كرد فعل على حقيقة افتراقنا، تماماً كما يفعل البعض حين تحملهم وفاة شخص قريب وصعقة فراقه إلى إدراك الدور الذي كان يشغل، وربما مثل آخرين عندما تنتفض عروق الحنين فيهم فتشدهم إلى ما فات بعد أن يتسع حيّز الفراغ المغفول عنه ليرتفع صراخ الحسرة عن الأيام الخوالي.
أجل، ربما كان هذا هو مصدر دوافعي، غير أنّ السجن وسنين الفراق الطويلة أضفيا مزيداً من تعزيز الارتباط العاطفي المحض، بحكم العلاقة الخاصة التي نشأت بيننا بعد ذلك أي بعد أن امتزجت أولى الخيوط في علاقتي بالصورة، لم تعد بالنسبة لي مجرد صورة تتفتّق عن ذاكرة، إنما صارت جزءاً من المكان، من الحالة الرتيبة التي يتكوّن منها عالمي الصغير الضيّق، هذا العالم الذي صارت علاقتي بمكوّناته تتحدّد بأطر الاعتياد وتكريس النمطيّة المُفرطة، لتمتزج بعد ذلك على إيقاعٍ من الحميميّة ثم ليحفّها الحنين الذي لا يشبهه حنين قط.
لن أنسى ذلك اليوم الذي تلقّيت فيه الخبر، لقد أهيل عليّ مثل جبلٍ لكنني ما اندفنت شعرت بأن العالم كله أسود ومُوحش يجثم فيه صقيع أبدي، كنت مثل حشرة مسحوقة أجاهد ولا أقوى على النهوض لقد خارت قواي وصرت مثل خرقة بالية مرمياً على هامش الزمن وعلى هامش الحياة.
كم كنت وحيداً ومقصياً في تلك اللحظة وأشد ما رغبت في هجر هذا العالم وأرتمي في حضن أمي وأنام، أنام ولا أفيق، لا أدري من أين أتى كل ذلك التعب الذي داهمني، كأنه راح يصعد ويطفو من أعماق الزمن السحيقة ويتلبّسني، كنت منهوكاً إلى درجة الخضوع لكنني تمالكت نفسي، أشحت بوجهي ناحية غروبٍ استللته من ذاكرة الصبا، فتمنيت أن يتجسد أمامي حقيقة ماثلة كي أسحق أمامه نداءاتي الضارعة وأنا أغالب الدمع ألا يسيل أمام ذلك الظابط، لقد غامت الدنيا في عيني، ووجدتني أنفصل عن كل ما حولي وأغرق في الوجه الذي تحجّر على كل الأسوار.. وجه أمي.
في ذلك اليوم كان ضابط القسم قد أرسل في طلبي لمقابلته، ظننت أنّ الأمر يتصل بالطلب الذي تقدمت به من أجل مقابلة المدير بعد أن تم رفض طلبي بالزيارة المفتوحة، لقد طال غيابها بسبب المرض الذي حال دون قدرتها على المشي وكانت الأخبار التي يوافيني بها الأهل لا تبعث على الاطمئنان.
ارتديت زي الأسر وخرجت برفقة أحد السجانين لمقابلة الضابط وما لبثت أن دخلت إلى مكتبه حتى بادرني من دون مقدمات: "أمّك توفيت، لديك عشر دقائق لمهاتفة أهلك."
للوهلة الأولى ظننت بأنني لم أسمع جيداً فاستوضحته غير مصدق.
"أمي أنا؟"
"نعم، أمك، هيا لا تضيّع الوقت، عشر دقائق فقط."
هكذا أطلقت العبارة من فمه كأنها قذيفة، فسكنت في رأسي ثم تفجّرت لترديني في قلب الفجيعة، أنهيت المكالمة دون أن أعي كيف بدأت أو كيف انتهيت، دون أن أعي كيف انتهت، ثم رجعت أجرجر جسدي متهالكاً.
في الغرفة تحلّق الجميع حولي، عانقوني ولفّعوني بمودةٍ بالغة، عبارات المواساة والمؤازرة تتصادر  تباعاً دون انقطاع، كانت اللحظات أثقل من أن تُحتمل، فلم أستطع أن أطيل في الجلوس فاستأذنتهم آوياً إلى بُرشي، ألقيت بجسدي عليه مثل جثة مُهشّمة ودفنت رأسي في وحل ما يلمُّ بي، ثم رحت أمضي في الموكب الجنائزي الذي لا ينتهي.
في المساء أفقت من إغفاءةٍ قصيرة أفلحت في اقتناصها وكان عليّ منذ ذلك الحين أن أفيق على حقيقةٍ جديدة وأن أستوعبها ليس فقط كأمر واقع لا مفر منه، إنما أُحسن فهمها في إطار وقوعها التعسفي المفاجئ، وما لذلك صلةٍ بالسجن وكوني أسيراً أصبح ارتباطه بالعالم الخارجي مُقتصراً على روابط يُمكن أن أصفها بالواهية.
فمنذ ذلك المساء فقدت أقوى رابطةٍ لي بالعالم الخارجي، وبما أنّ السجن هو انفصال عن العالم بشكلٍ ما فأمي كانت بمثابة الحبل السرّي الذي يربطني به ويمدّني بأكسجين المواكبة والاستمرار، ولا أظن أنّ أحداً بعد غيابها يُمكن أن يستبدلها في هذا الدور، الأمر ليس مجرد صلة وصل أو وسيلة ربط بين مجالين متمايزين، إنما هو أمر يتجاوز صيغ التعليل المنطقي أو حتى التأويل العاطفي، فعلاقتي بأمي خلال سنين الأسر أخذت تنحو نحو ما يُمكن أن أسميه توطيد المصير الواحد، إنها علاقة الارتهان من جانبٍ واحد، عندما يفقد الخيار احتماليّته ويتحوّل إلى دفعٍ قسريّ ومسار محدد، أمي كانت أسيرة بصورة ما، مقصية عن حياتها الطبيعية ومضربة عن ممارسة بعض ما اعتادت عليه حتى وإن كان ذلك الإقصاء نابعًا من إرادتها الحرة، 
فهذا العزوف الاختياري عن الحياة إنما يُعبّر في حقيقته عن الترجمة الفعليّة للإحساس المُفرط الأعمى، إحساس الأمومة في أقصى درجاتها، بالطبع كان ذلك تعبيراً أمومياً عن حالة الفقد والافتراق التي تعيشها إلا أنّ ذلك كان في الوقت نفسه تشكيلاً إنسانياً فذاً للعلاقة الجانبية الخاصة المُحاذية لعلاقة أم بابنها، إنها امتداد ضارب في رحمها حينما كنت أتغذّى من دمها كي أتكوّن فيها وأخرج من ظلمتي الأولى، لقد قُطع حبل الدم بيننا، آن خروجي إلى النور وها هو قد اتخذ صيغة الربط الجديدة بعد دخولي إلى عتمة السجن ليتحوّل إلى حبل أمل نحيا به سوياً إلى أن يحين موعد نتعانق فيه من جديد.
لكن الموت أبى أن يكون لنا موعد آخر ولقاء آخر بل راح يتكامل مع السجن وبشاعته ويؤلف نديته النكراء يغرسها في قلب أملنا المجروح ثم ليعلن انفصالنا إلى الأبد
الآن ينتصب الزمن مثل جدار ليس كمثله جدار لحظة تنبلج فيها الحرية من رحم الموت، ليعود الزمن إلى مساره الطبيعي، فاليوم سوف أغادر هذا العالم وسأبدأ حياة جديدة، يُقال بأنها جديدة، فحتى الآن لا أعلم إن كان اعتلال مسار الزمن هو مجرد اختلاقٍ ذهنيٍ ليس إلا.
ولكن مهلاً، لست في وارد الخوض في نبوءات المستقبل وسأعود قليلاً إلى دفتر الذكريات إلى منبع الألم الذي أنبت في أحشائي بذرة الوجع وجعلها تُعرّش في عقلي ووجداني، ففي السجن وفي أوقات المحن عموماً عندما تتضافر الملمات وتكثر دواعي معاينة الواقع فإننا نجد أنفسنا مكرهين على مُناظرة أنفسنا من زوايا أخرى غير تلك التي جرينا على اتباعها، إنها الحالة التي نأوي فيها إلى ملاذاتنا الداخلية، حين نعجز عن مواجهة الواقع، وذلك لأنّ الأزمات والشدائد تجعلنا أكثر شفافيّةً في التعبير عن انفعالاتنا وأكثر صدقاً في مصارحتنا لأنفسنا، لأننا تحت وطأة ظروف قاسية نكون أكثر جرأةً على مواجهة أنفسنا والاعتراف بضعفنا.
أجل الضعف، إنه السلاح الذي يشحذ القيم الإنسانيّة لنتشبّث بها أكثر ولكي نكون أكثر صلابةً أمام الواقع، إننا في الواقع نشتق قيمتنا الذاتية من مستوى إدراكنا لمعاني هذه القيم ومدى التزامنا بها، لذا قد يكون الضعف بمثابة العودة إلى نقطة البداية، غير أنّ شكل الانطلاقة الجديدة هو ما يُحوّل هذا الضعف إلى قوّة.
بوفاة أمي ضاقت جدران السجن وتحوّلت إلى مُسنّناتٍ تُطبق عليّ وتنغرس في كُليّتي، كنت أهذي وألمي نيرانٌ تنطق عمّا يستعر في داخلي، كنت أصرخ في مدىً مُقفر لا يسمعني فيه أحد، وكنت في غمرة الوجع الموصول أسائل الجدران الصماء عن حتميّة القدر الذي يؤول بنا نحو النهايات الوخيمة، وما إذا ما زال يتعيّن عليّ أن أبقي على تساؤلي قائماً في هذا المدى المُفعم بالرثاء.
في الواقع لقد فرض علي موت أمي أن أقف أمام نفسي وأستلّ المفردات من جراحي وأعيد تعريفها بناءً على الواقع الذي يستلب الذات ثم لأكتبها بمدادٍ من دمي المُستباح وروحي العارية، الموت الهزيمة الحرمان الأمل، كانت هذه المفردات وغيرها مجرد تعبيراتٍ لغويّة أدركها بحُكم معناها اللغوي ولكنني منذ تلك الليلة بدأت بإدراكها بحُكم معناها الانفعالي ومُعايشة الأثر الذي تفرضه على واقعي الشخصي كإطارٍ ومُحدّدٍ للمعايير والقيم.
في تلك الليلة أسدل الموت ستاره الأسود على وجهي، فعرفت بأنّ الأمل خدعة، فالأمل قد يتساوى مع الوهم لا سيما إذا انفصل عن مُعطيات الواقع، إنه حبلٌ واهنٌ نتعلّق فيه لكي لا نسقط، ونغفل أحياناً عن الجدوى من عدم السقوط، ذلك لأنه حينما تلتفّ حبال الأمل حول الأعناق فإنها تشنق أصحابها، أحياناً يأخذنا الأمل ويحملنا على دروب نحتال بها على أنفسنا، إننا نلتجئ إلى ذلك لأننا نفتقد القدرة على المواجهة، ونُفضّل التهويم في عالمٍ من الرغبات اللامنطقيّة، قد تكون حالة كهذه هي أحد أشكال العزل لأنّ التعامل مع الواقع مهما صغرت التحديات فيه إنما يستوجب إرادةً للعمل وليس وقفاتٍ تأملية أو آمال حالمة، لذا فقد قررت ألا أسمح للسجن أن يبتلعني أو أن يقصيني إلى حدود الحياد، ففي السجن مثلما في أي مكان آخر فإنّ القيمة الذاتية هي من قيمة ما يفعل المرء وكذلك من قيمة ما يُمثّل، من هُنا لا يُمكن أن يُفهم معنى الصمود إلا بالإجابة عن سؤال الكيف، أعني كيف يعيش المرء داخل السجن وليس مجرد الوجود فيه، وما الصمود إذن إلا إعادة ابتكار الذات بصورة مستمرة، وإيجاد الإمكانات التي من شأنها توسيع الفضاء الذاتي إن جاز التعبير.
وفي تلك الليلة وقف الموت أمامي مثل جبل هائل يحجب الرؤية عمّا سواه، كان إحساس الفقدان حريّاً بالحط من قيمة كل شيء فتضاءل كل شيءٍ بالفعل، لطالما فرض عليّ السجن أن أتأمله كحالة حرمانٍ قاهرة، غير أنّ لحظة الحرمان الكبرى تلك علّمتني أنّ أكبر الخسارات هي تلك التي لا تُعوّض (تلك اللحظة بالذات)، ما أضاء في نفسي شعلة الوفاء بالتقليل من أثر تلك الخسارة، فالوفاء هو لقاء الغائب في ذاتنا، إنه أحد أوجه الضمير الذي يحضر فيه الغائب فنُجيز له أن يُحدد معاييرنا الذاتية، فقد اكتشفت لاحقاً بأنّ أمي هي من صنع في نفسي أهم سلاحٍ لمُواجهة السجن، ألا وهو الزهد، لقد ساءلني طيفها من وحي ضميري الشخصي وأنا في ذروة استسقاء الروح:
أتعرف ما هي روعة الحرمان؟
فأجبت:
أنه بقدر ما يُعاظم فيك الشغف والاندفاع للانعتاق منه فإنّه يبني في نفسك القيود التي تهذبها، أجل إنه يخلق فيك إرادةً يؤطرها الانضباط الكامل بالمعايير القيميّة التي تضعها لنفسك، وقد علّمتني أمي مُذ كنت صغيراً أنّ الحرمان هو مران النفس على كبح الشهوات، لقد كانت تنهرني عن الاستحواذ على ما أرغب ثم تُغلّف ذلك بغلاف الأخلاق، لم تكن تحجب الأشياء عني إذا كانت متوفرة، بل كانت تُجبرني على عدم إتيانها أو الحصول عليها على الرغم من كونها في متناول يدي، عليك أن تتخذ قراراً بمنع نفسك عن الشيء وأنت راغب فيه، هي حالة صراع داخلية، صراع الرغبة والإحجام المُدمغ بالأخلاق، قد يكون ذلك مؤلماً في البداية ولكن المتعة الحقيقية التي تجنيها عندما تصل بنفسك إلى حدود التحرر من الرغبة، حينها يتحوّل الحرمان إلى نوعٍ من الزهد، الزهد يقودك إلى التعالي ويُحررك من ضغط الحاجة فتنحصر متطلباتك في ما تحتاجه حقاً وليس بما ترغب بالحصول عليه، لذلك أنت خارج دائرة الخضوع للابتزاز والمساومة، ولما كان زمن السجن الذي نعيشه الآن هو زمن الارتهان لإرادة السجان وليس زمن صراع الإرادات، فإنّ الحفاظ على الكرامة الشخصية يعني أن تتحلل من مادة المساومة وأن ترتقي بنفسك إلى حدود المواجهة الفعليّة فلا أحد يستطيع حينها أن يُصادر منك أبسط أشكال التعبير عن حريتك حتى وإن كان ذلك مجرد موقف رافض.
اليوم سألتقي بأمي، سألتقيها في بداية أخرى لاكتشاف المعاني والدخول الجديد إلى الحياة عبر بوابة الحرية، صحيح أنّ الفقدان هو لحظة تنعدم الفرصة بعدها أن نصنع ذكريات للزمن القادم ولكنه سيظل يتجلّى في معناه الذي فرضه السجن كعلاقة أخرى مع الذات علاقة بدأت من الإحساس الحامض بطعم الهزيمة والخسارة وانتهت بإعلان الانبعاث من جديد. أجل، لقد كانت الهزيمة شكلاً من أشكال الانبعاث الذاتي، أوليس وجود الجدار هو ما يُعلمنا كيف نفتح ثغرةً فيه، لم أبحث عن الثغرة، ولكنني عملت على إيجادها، ففالسجن أنت تتذوت لتعرف حدود ذاتك وحدود قدراتك ثم تبدأ ببنائها وتطويرها، لذا فلا هزيمة طالما أنك ما زلت تلتزم وتعمل بما يضمن حفظك لكرامتك الشخصية، لأنّ كرامة الحر أبعد من القيد الذي يُكبّل الجسد.
الآن أتذكّر حينما كنت أعود إلى زنزانتي عقب الانتهاء من زيارة الأهل، كنت أعود بروحٍ تتوقّد بالحيويّة وتشتعل بالتجدد وكأنني قد خرجت للتو من عملية غسيل للدماغ، كنت أعود وقد حقنني اللقاء بشحنةِ الوقود التي ستحملني على الاستمرار والصمود، لذا فقد كانت الزيارة مناسبة لنُفرّغ عن كواهلنا شيئاً ممّا تراكم عليها من ثقل الواقع والأهم أنها كانت تُشكّل لنا مجالاً معنوياً يُعيد ارتباطنا بالعالم الخارجي ويبث فينا أملاً مُتجدداً بحتميّة الانعتاق.
في ضوء ذلك كانت أمي بمثابة مجمع تلك المعاني والاعتبارات، وكانت تُشكّل أحد أوجه تأكيد الذات بالنسبة لي وتمنحني الشعور بقيمتها كذات بصرف النظر عن مدى صوابيّة هذا الشعور إذ أنه يظل في إطار الواقع الذي يستلب الذات فعل مقاومة، لذلك كان يجب أن يستمر وأن يظل قائماً.
طوال الأعوام التي قضيتها في السجن كانت أمي بمثابة الجدار الذي أستند إليه وأتوارى في حماه، كانت مرآةً تعكس لي صورةً تمنحني إحساساً بأنني ما زلت أملك مُبرراً للوجود وأنّ علي أن أعمل ما بوسعي من أجل أن أصنع معنى لوجودي، أعوام مرت على وفاة أمي، لا أدري تعدادها!! بوفاتها اعتقدت أنّي فقدت ذلك الجدار وفقدت تلك المرآة وأنه ما عاد بإمكاني أن أعوّل عليهما، لكن الأيام راحت تطبع غير ذلك في دفتر قناعاتي وقد تحوّلت أمي إلى نجمٍ في هذه الظلمة مثلما كانت قبل ذلك، لكنني ما كنت لأراها وهي التي كانت على الدوام تُضيء.

الأسير سائد سلامة 

سجن جلبوع