كتبت الأسيرة المحررة دعاء الجيوسي..

شبح وحكايا (3)، بقلم دعاء الجيوسي

IMG-20210109-WA0003.jpg

بقلم : دعاء الجيوسي

بعد أن أفرغ الجلاد غيظه وصَب على الجسد المشبوح حِقد القرون ظن أنه إنتقم من نسل سرجون فعَلَق السوط على كتفه وغادر....

تململت السلسلة من على الجدار 

تَنهد عامود الشبح وتَمتَم أما لهذا الليل من صبح....

في الزاوية حدثت جلبة مخنوقة.... ثم صَدح صوت كان نزلاء السرداب يظنون صاحبه أبكماً....

ليل طويل ...حمل ثقيل....دماء تجري...أعمار تذوي.... جدران متطاولة...سجون وشجون...وأرض قَدرها أن تواجه كل ما في العالم من جنون...

تنهد العامود.... تبسمت السلسلة...فتح المشبوح عينيه هتف والدم يقطر من ظهره وبنات يديه....

ها أخيراً تحدثت... وزاويتك غادرت كُنا نظنك مُتمترساً فيها كالجبال هذا دورك...أنت الآن سامرنا قُل وقَصر الليالي الطوال.

قال الكرسي صغير الحجم...يا دام مجدكم وُكسر بالعز قيدكم...يا أبناء البلاد....يا خير الأجناد...

أولاً إسمحوا لي أن أرحب بالسلسلة هذي التي حملت هويتنا حديثاً....وتتعلم لغتنا حثيثاً...

ثُم دعوني أضيف...يا ضحايا زمننا المخيف وواقع ساستنا السخيف...

إني كُرسي كنت فيما مضى بٌني اللون...

منصوباً على شاطئ يافا ليس بيني وبين الماء بون...

كنت ملجاْ العٌشاق في أحضاني يبثون الأشواق...شهدت قصص غرام...حفظت قصائد وغزليات...غيرة و فراق ثم لقاء وما بينهما من عتاب وبكائيات...

في أيام حالكة السواد...وحين حطت يد المنايا على البلاد.... في عقد الفجائع حيث العدل ضائع...سقطت مدينتي....فقدت موطأ قدمي وظيفتي...جدارتي بالحياة وأهليتي...

مكثت على الشاطئ بكيت يافا العروس....في أيام تداخل أسودها بأبيضها لا أقمار ولا شموس...

كنت قُرب الماء وحيداً لم يقصدني عاشق...أحصي من مروا علي يتوشحون البنادق....

سألت عنهم فقيل كلهم ماتوا قضوا على أبواب المدينة وقُبروا في الخنادق....

كان بيني وبين بحار من الهند سابق عهد يزورني إن حط بالميناء...أعطيه جلوساً مُريحاً وطيب هواء...

فيقص عليَ أخبار مغامراته في الموانئ ويعترف كل مرة أن له في كل مَرسى حسناء...

والبحارة يا رفاق القيد كُرماء بالفطرة سخائهم أورثهم في كل الدنيا سِيَرٌ عطرة ...

وعدني صديقي البحار ذات يوم أن يأخذني من مكاني على الشاطئ فأجوب معه في رحلة بحرية كل المرافئ...

إنتظرته وقلت عله يأتي فهذا وقت الوفاء من صديق و في أيامي السوداء أنا بحاجة لرفيق...

لم يأتي البحار وقالوا إن الميناء مُغلقة....و أن السُفن لم تعد تأتينا فأحوالنا هنُا مضطربة مقلقلة....

أوائل الخمسينات وحين أصاب المدينة ما أصاباها من لَأْوَاءَ وباتت مرتعاً للأوباء...لم أعد أفرق بين ملائكة الرحمة الشُقر وشياطين العذاب الصُفر...

...فكلهن بلا حياء

حين يَحُل المساء تَخرج رحاب من تحت جلودهن ويحدث في العلن ما كان في الخفاء....

قصدني ذكوراً وإناثاً...تعاطوا أمامي الموبقات....الفضائح الصاعقات...فقلت أيا رب بعد طيب ملقى العشاق أصبح شاهداً على ساقطين وساقطات....

المهم أنهم وعندما قرروا تغير معالم الساحل أتي أحدهم ركلني بقدمه....بصق وشتم وقال انتزعوه...إِمسخوه....إسحقوه...خذوه...غيبوه.

حملني مختلطوا الأنساب أولئك الذين لا يعرف واحدهم أباه على وجه الدقة.... وألقوني هنا...يأكلني الغيظ وتدميني الحرقة...

في البدء قيدوا إليّ كلب حراسة فظ ليس كأوفياء كنعان الذين أعرفهم...ولا حتى كالذئاب الذين كنت على الشاطئ في ليالي الشتاء أصدفهم....

بعد إهمال طال.... و جيرة كلب آبق لم تكن لتخطر لي على بال...

أدخلوني هذا السرداب ومن يومها لم أرى له باب.... و بِتُ شاهداً على من يُسام في دهاليزه سوء العذاب.

أنا يارفاق القيد لست عاجز اللسان...ولا رخو الجنان.... ولكن ومُذ حط على مدينتي سوء الطالع....لُذت بصمتي وقلت لم يعد في الدنيا سامع....

أأرض كنعان... مثيلة الجنان.... تصير نهباً لكل طامع....

كان الصمت جداري عالمي ومداري.....حال ليلي ونهاري....

حتى سمعت حديثكم فشغفت الآذان وقُلت أشارك عساي أكتب سطراً.... في ملحمة تدور حولي....

يا أخوة السلاح....يا زهر الجراح.....يا نور الصباح.....يا صوت حريتنا الصداح.....يا عصف وقصف وغضب الرياح.....

أيها القادمون من لجة البحر.....أيها الزاحفون فوق الجمر..... يا هدير القهر......يا أمواج العابرين وأفواج الثائرين.....

إني رفيق الأسرى.... نزف جراحهم....العز يخطو في ساحهم.....أنا راوي السجون....

أعطوني الآذان.... وأصغوا إليً:

إني في محبسي منذ سنين...أعتق الأحزان.....أجترح من المقصلة سنبلة.... وأستولد من القمح صاعق وقنبلة.... 

آلاف الأرواح إليّ قُيدت....

شباب كالصواعق....

صبايا هُنَ روح الخنادق...

ألسنة صمتت فصانت الأسرار...

شفاه تمزقت وهي تنأى بنفسها عن ذلة الاعتراف والعار....

فوق حوافي تكومت أيادي منزوعة الأظافر...

ولحوم أنضجتها النار وأُعُملت فيها الخناجر....

في مكاني هذا بكيت آلام من ترفعوا عن البكاء...

أطلقت النداء....

سئمت انتظار الزحف واللقاء....

لم يُجبني أقنان ولا عتقاء....خذلني أهل مكة الطلقاء....

من أتقنوا تدوير الزوايا لأجل البغايا .... ملوك التطبيع........من دنسوا ثالوثنا الأقدس تسطيحاً وتربيع.

أولئك الذين يروون الكون فلك يدور حول بطونهم وما أسفلها....

يلوون عُنق الدين واليقين...الزيتون والتين...ويَعُقون من حملها...

تصوروا أن بلاد النبي.... باتت اليوم سبي...

وأن دهاقنتها اختلفوا حول أحكام الطعام والمضغ... وحرمة التبغ....

وطهارة ريق الكلب بعد الولغ.....

تجادلوا حول زواج القاصرات والتمتع والتُبضُع

إختلفوا حو نكاح المسيار والشغار....

ردوا على جاليلو نظرية كروية الأرض وخطوط الطول ودوائر العرض.. كل هذا.... ولم تكتشف الأفئدة الورعة.. حديث شريف ولا أية ولا نصوص حول حرمة مصافحة ومسافحة اللصوص....

وبعد كل هذا الخذلان وفيض الأحزان بلعت اللسان...

وها أنتم تخرجونه من جوفي ألا تباً لكم من صحب وخلان....

وقبل أن يسترسل كرسينا العتيق في سيل شتائمه....أو يروى كل آلامه وهزائمه...سمع الصَحبُ إصطكاك المفاتيح...بات الجلاد يهرع تجاههم كمن أسلم ساقيه للريح....

بدا برماً...وهذا وقت سحق العظم للترويح...

زمجر الجلاد عواء ونباح.....دَقُ عظم...ذرو لحم في الرياح وأحُكمت دائرة الألم طريقاً يُفضي للصباح.