الأسير الأديب كميل أبو حنيش من قلب زنزانته في سجن ريمون الصحراوي يكتب..

هاجس القوة والأمن لدى نتنياهو

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

شاء القدر السياسي لـ"بنيامين نتنياهو" أن يكون أحد أبرز القادة في تاريخ إسرائيل، وربما سيتفوق على أسلافه ممن حكموا الدولة العبرية في عدد السمات والخصائص والمؤهلات وسنوات الحكم والقدرة على البقاء السياسي والتكتيك ومراكمة الإنجازات وحتى في هاجس القوة والأمن.

مثَّلت المسألة الأمنية هاجسًا مُزمنًا لدى قادة الحركة الصهيونية حتى قبل نجاحهم في إنشاء الدولة، غير أن "زئيف جابتونسكي" -الأب الروحي لحزب الليكود- كان أول من وضع تصوُّرًا ورؤية أمنية منذ عشرينيات القرن الماضي في مقال شهير عُرف بـ(الجدار الحديدي) نشرته الصحف العبرية في عام 1923م واستمر نشره لسنوات أخرى تالية، وسيتحوَّل هذا المقال وما ينطوي عليه من تصورات إلى حجر الزاوية في الرؤية الأمنية الإسرائيلية الاستراتيجية.

ويُلخِّص جابتونسكي فكرة الجدار الحديدي بأن الفلسطينيين لن يسلِّموا بالوجود اليهودي على أرضهم إلّا إذا أُرغموا على ذلك، وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال القوة وبناء الدولة اليهودية على أساس القوة التي من شأنها أن تُشكِّل جدارًا حديديًا لا يمكن اختراقه، عندها لن يجد الفلسطينيين أمامهم من يدٍ سوى التسليم بهذه القوة والتعاطي معها وقبولها والكف عن محاولة اختراقها.

لكن رؤية جابتونسكي الأمنية افترضت أن العدو الرئيسي للوجود اليهودي هم الفلسطينيون على الأرض واقتصرت رؤيته للجدار الحديدي على الفلسطينيون الذين سيشكِّلون تحديًا للمشروع الصهيوني، ولم تشتمل رؤيته على سائر البلدان العربية وجيوشها، كما أنه افترض أن بريطانيا -القوة الاستعمارية الراعية للمشروع الصهيوني- هي من ستشكِّل الجدار الحديدي أي الحماية لهذا الوجود.

أما "ديڤيد بنغوريون" فقد تمثل فكرة الجدار الحديدي التي ذاع صيتها قبل إنشاء الدولة، وبلّْور رؤيته الأمنية وترجمها على الأرض، غير أنه اختلف مع رؤية جابتونسكي بأن العدو الحقيقي للوجود اليهودي في فلسطين هم الدول العربية ووجودها، وبالتالي فإن بناء القوة اليهودية يجب أن يأخذ في حسبانه القدرة على مواجهة كافة العرب بما فيهم الفلسطينيين، وأن هذه القوة يجب أن تعتمد على اليهود أنفسهم لا على أي دولةٍ أخرى.

وقد بدأ بن غوريون ببلورة هذه الرؤية عام 1947م وترجمها سنة 1948م ووضع أسسها الثابتة عام 1953م، ومنذ ذلك الحين بقيت هذه الرؤية تمثل الاستراتيجية الأمنية الثابتة التي ستتأسَّس عليها الدولة ويسير على هديها كافة رؤساء الحكومات ووزراء الدفاع والقادة العسكريين حتى يومنا هذا.

غير أن نتنياهو الذي يبحث عن التميز بينه وبين سائر أقرانه من رؤساء الحكومات السابقين حاول أن يضع تصورًا أمنيًا متكاملًا في كتاباته وتصريحاته الإعلامية، بل واستطاع ببراعةٍ وحنكةٍ أن يقطف ثمار الجدار الحديدي وترجمة القوة في السياسة والاقتصاد، لقد اعتبر نتنياهو كما سائر القادة الصهاينة أن القوة هي مبرِّر وجود إسرائيل وليس السلام مع جيرانها، وقد جمع في رؤيته بين موقف جابتونسكي وموقف بن غوريون بأن الجدار الحديدي يجب أن يهزم الفلسطينيين والعرب بل وتحويلهم من أعداء إلى حلفاء محتملين، كما أنه أبقى العامل الخارجي أي الدولة العظمى في دعم وحماية إسرائيل، وفي قلب هذه الرؤية سكَّ مجموعة من المفاهيم كالجدار الواقي، سلام الردع، السلام الاقتصادي.

أما الجديد في هذه الرؤية الأمنية يتمثَّل في إدخال عدوٍ جديد إلى جانب الفلسطينيين والعرب ألا وهو المحيط الإسلامي وتحديدًا إيران، صحيح أن إسرائيل تنبَّهت مبكِّرًا لهذا التحدي وتحديدًا منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، غير أن ما يُميز نتنياهو أنه نجح في تحويل إيران إلى العدو الأول لإسرائيل وأنها تُمثِّل خطرًا وجوديًا عليها، وبهذا عمل بمثابرة وبلا كلل ومن وراء الكواليس في البحث عن حلفاء محتملين من العرب يشاطرون إسرائيل العِداء لإيران وأثمرت هذه الجهود في جلب أربعة أنظمة عربية حتى الآن إلى حظيرة التحالف معها.

وفي قلب هذه الرؤية أيضًا يطمح نتنياهو في تحويل إسرائيل لدولة عظمى يمتد مجالها الحيوي الأمني والجيوسياسي والاقتصادي من المحيط الأطلسي غربًا وحتى حدود الصين شرقًا، من حدود روسيا شمالًا وحتى حدود القارة الأفريقية مع المحيط الهادئ جنوبًا، وهذا لا يمكن أن يأتي إلا من خلال القوة المطلقة التي بإمكانها الهيمنة على المنطقة وإصفاف كافة الدول المركزية فيها وإقناع دولها بإقامة علاقات مع إسرائيل إما طوعًا وإما بالإرغام، فالقوة الرادعة الساحقة حسب نتنياهو من شأنها أن تأتي بالسلام الرادع وتتيح لإسرائيل السيطرة على ثروات المنطقة وتجذب المزيد من المهاجرين، وتضمن بقاؤها دولة قوية بل وتحويلها إلى دولة عظمى، وهو ما بتنا نسمعه مرارًا على لسان نتنياهو في السنوات الأخيرة. 

ويعتقد نتنياهو أنه لا يمكن لهذه الرواية أن تنجح بدون إختراع عدوٍ وتضخيمه، واستمراره بإثارة الفزع والخوف في نفوس الإسرائيليين، ووجد ضالته بإيران، وكان أفضل من استدعى وأيقظ الهواجس الأمنية التي سعت الدولة العبرية في زرعها في نفوس المستوطنيين طوال العقود الماضية، لكن نتنياهو دأب على إثارة الهواجس لأسباب سياسية وشخصية، وهذا سرٌ يعرفه الجميع بما فيها المؤسسة الأمنية الصهيونية. 

إن الهستيريا الأمنية التي يثيرها نتنياهو منذ أكثر من عقد تهدف إلى محاصرة خصومه السياسيين بما فيهم الجنرالات العسكريين بل والسخرية منهم، وتنصيب نفسه بوصفه حامي القلعة الوحيد وأن مستقبل إسرائيل يعتمد عليه شخصيًا، وأنه إستطاع أكثر من غيره من تحقيق إنجازات غير مسبوقة لإسرائيل على كافة الأصعدة، فهو الوحيد الذي حوّل إيران إلى عدوة للعالم، وفي عهده جرى التشويش على المشروع النووي الإيراني وإغتيال علماؤها وإدخال فايروس إلى مفاعلها النووي وحتى سرقة أرشيفها النووي من قلب إيران، وأنه هو من أقنع ترامب بالإنسحاب من الإتفاق النووي وفرض عقوبات اقتصادية أدت إلى إضعافها، إلى جانب ضرب وجودها في سوريا ومنع تغلغلها في المنطقة وأنه إستطاع أن يرغم أربعة أنظمة عربية للتطبيع مع إسرائيل وثمة دول أخرى غيرها في الطريق.

إن هاجس القوة والأمن، وإن كان هاجسًا إسرائيليًا كامنًا في بنية الدولة، إلا أنه في عهد نتنياهو بات يحتل مساحة مهمة في الخطاب السياسي في الميدان.

ففي عهد نتنياهو تطورت القوة العسكرية الإسرائيلية وباتت تعتمد أكثر على التكنولوجيا العالية والاستخبارات وتطوَّرت الصناعات العسكرية ومنظومات الدفاع الصاروخي كالقبة الحديدية والصولجان السحري ومنظومة الدفاع التحت أرضي الخاصة باكتشاف الأنفاق، وفي عهده أيضًا بنت إسرائيل الجدران على الحدود مع مصر والأردن وسوريا ولبنان وغزة وأكملت الجدار الفاصل في الضفة فضلًا على بناء سياج بحري.

لقد حوَّل نتنياهو إسرائيل إلى دولة مسيَّجة في البر والبحر والجو وبهذا اكتملت في عهده رؤية الجدار الحديدي التي تصورها جابتونسكي وبنى أسسها لن غوريون.

غير أن إسرائيل ورغم نجاح رؤيتها الأمنية التي تصورها جابتونسكي منذ حوالي مئة عام وترجمها بن غوريون وسار على هديها معظم القادة الصهاينة ووصلت ذروتها في عهد نتنياهو، لم تنجح حتى الآن في التغلب على العدو المركزي في رؤية الجدار الحديدي الذي تصوره جابتونسكي ألا وهو العدو الفلسطيني، إذ أن ما يناهز سبعة ملايين فلسطيني يعيشون على الأرض وباتوا داخل الجدار الحديدي أي داخل القلعة، وتوجد مقاومة مسلحة في غزة وانتفاضات وهبات تنطلق وتقلق راحة دولة الجدار الحديدي في عموم أرض فلسطين.

أما هزيمة الجيوش العربية كما تصورها بن غوريون، والهيمنة على المنطقة وثرواتها كما يتصورها نتنياهو فإنما ينطوي على مخاطر أمنية وحتى وجودية، فهذه الدولة التوسعية التي تطمح بالهيمنة على المنطقة تشبه قطًا جائعًا يحلم بابتلاع فيلٍ أو جمل، وهو ما من شأنه أن يكلفها أعباءً مادية وأمنية وسياسية وعسكرية فهذه الرؤية المستقاة من المشاريع الاستعمارية التقليدية البائدة تنطوي على الغرور وجنون العظمة لدي نتنياهو، وربما لم ينتبه إلى أن الطموح التوسعي الاستعماري لمختلف التجارب الاستعمارية انتهى بالفشل والإندثار، فالأسئلة التي استعصت على جابتونسكي في الإجابة عليها في رؤيته للجدار الحديدي، بقيت مفتوحة في الزمن، وها هو نتنياهو يهرب بعيدًا عن الإجابة عنها بتصور إسرائيل كإمبراطورية تحكم المنطقة وتمتد حدودها إلى حدود الدول العظمى، وبقي السؤال معلقًا: ماذا بشأن الفلسطينين على الأرض؟ هرب نتنياهو من الإجابة عن السؤال كما هرب غيره، وآثر الإجابة عنه في مكان آخر.

وبهذا المعنى فالرجل مسكونٌ بجنون العظمة، وأوهام التاريخ، ربما تصور نفسه أنه ظلٌ للملك سليمان الذي كان يحكم العالم بمساعدة الجن والعفاريت ويطوف على أقاليمه جالسًا على بساط الريح وتركع له ملوك وأباطرة العالم، لكنه ربما نسي أن مملكة سليمان الخرافية لا يوجر لها أثرًا ولا عين في تراب هذه البلاد، وإذا كانت قد وجدت بعضٌ من هذه الدولة، فإنها سقطت وتلاشت كما تروي بعض الإخباريات التاريخية المشكوك في صحتها. 

وفي كل الأحوال تنبئنا التجارب التاريخية البشرية أنه لم تتبقى أية قلعةٍ أو جدارٍ أو إمارةٍ أو إمبراطورية إلا وجرى اختراقها وإسقاطها ولن يكون مصير دولة الجدار الحديدي سوى السقوط والإندثار.

الأسير كميل أبو حنيش

سجن ريمون الصحراوي