كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من داخل زنزانته في سجن رامون

هذيانُ الذَّاكرة

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون_حنظلة

أتطلّع نحو سماء الذّاكرة متفحصًا ما حلّ بها بعد هذا العمر من الرّحلة مع القيد، فأرى صدوعًا خفيفة تنذر بالخطر، وأخشى من اتساعها لتتحول إلى ما يشبه الثقب الأسود الذي من شأنه ابتلاع كل شيء. عندها قد لا أجد ذاتي.

كيف أمكن للإنسان أن يخشى على الذّاكرة وفي ذات الوقت ينشد نسيان بعض فصولها المؤلمة. كيف صار بوسعه الجمع بين نقيضين: الخوف على الذّاكرة بوصفها هوية المرء، والرغبة في نسيان بعض ما تلتقطه من صور واحداث. ومع هذا نحن لا ننسى البتة. إنما نقيم مصالحة وهدنة مع الذّاكرة، فيما يظلّ الاشتباك قائماً بين النسيان والذّاكرة.

لا حياة بلا ذاكرة. بيد أنّها أحسنت بعدم احتفاظها بكلّ شيء وإلا لما أمكننا احتمال كل هذا القدر من الشقاء والأحداث الفاجعة.

أين تذهب كل تلك الأحداث والمشاهد التي اختزلتها الذاكرة؟ يقال إنّها تستقر في اللاوعي وبوسعنا استعادتها بإرادتنا او بإحدى المحفزات التي تستدعيها. وهناك في اللاوعي حيث الخزّان الأكبر للذّاكرة المطويّة في غياهب النسيان أحاول إقفال أبوابها وعدم العبث بها لئلا تتسرّب أحداثها وأغرق في أعماقها.

لا علاقة للمنطق بما أقول.. لأن الأدب مغاير لأي منطق في كثير من الأحيان. ووجد الأدب لكي يخالف الطبيعة ويعبر عن المعقول واللا معقول، فيتلامس في أقصى درجات تجليه مع الجنون. 

إنّ مهمّة الأدب أن يبرز شرعية اللامعقول، وأن تقيم توازناً بين المعقول والجنون . ألهذا صار بمقدورنا الاحتفاء في عالم التناقضات: الليل والنهار، الصيف والشتاء، الخريف والربيع، البراءة والنضج، الظمأ والإرتواء.... الحياة والموت. 

لكن ما علاقة الأدب بالذّاكرة؟ ربما كان الأدب هو الحساء الذي تطهوه الذّاكرة على نيرانها الهادئة. وإذا كانت ذاكرة السجن تطهو ذلك القَدْر من المشاهد المفزعة لتنتج هذا الحساء الذي يقال له أدب السّجون. فإن هذا الصّنف من الأدب يتغذّى على ذاكرة الألم والحرمان كما تتغذّى أشجار الصحراء على الجفاف. فلا عجب عندئذٍ أن تكون خضراء يانعة . واذا لم يتسنّى بنا بعد إنتاج نص أدبيّ يليق برحلتنا المتعبة، فربّما يعود السبب للوقت. قد نحتاج المزيد من الوقت لنّمو جذورنا أكثر في صحراء الألم لنرتشف ما تبقى من آمال رطبة وما علينا سوى التّجمل بالصّبر . فوحدها الصّحراء من علمتنا ملكة الصبر، ولهذا احتفظت بالجمل في قلبها ليكون سفينتها لنشتق منه نحن "التجمّل" و "الجمال" ومن أنثاه الناقة نشتق "الأناقة". فتجمّل أيّها الجمل بالصّبر واحتمل الجفاف فلمثلك خلقت هذه الصحراء. 

سأتجمّل بالصّبر واحتمل الجفاف. أنا اللاهث في صحراء شاسعةٍ لا تطلّ سوى على العدم. أرتشف القليل مما تبقى من جرعات في قربة المعنى لتطيل المزيد من البقاء. 

لا أدري ما الذي يشدّني للصحراء. ألأنّ سجني يقوم في وسطها. أم لأنني أحمل في أعماقي ذاكرة الصحراء من مورث قومي اللاهثين في صحرائهم. الأبدية ؟ أم لأنّ الوقوف على الأطلال وذرف الدموع على الأزمنة الغاربة باتت إحدى مكوناتنا النفسية والثقافيّة والوجدانيّة. 

ارخي زمام وقتي كما يرخي البدوي زمام جمله. يذكرني الوقت بجملٍ امتطيه، فأسعى لترويضه كي لا يسقطني عن سنامه .هكذا تقودني الأيّام في دائرة لا تنتهي .

ها أنا ذا من فوق ذروة سنام وقتي أحاول أن أتحايل عليه. أروّضه ليحملني إلى مجاهيل لم تتطأها الذاكرة. ربما ينتهي هذا الزمن الممتد في البعيد. يتراءى لي ما يشبه الواحة فأستحث وقتي ليغذ خطاه سريعاً وما أن أدنو من الواحة حتى يتراءى لي السراب. ولكثرة ما تراءت لي الواحات صرت خبيراً في السراب. 

لا يحفل بي الوقت الذي أمتطيه. إنه حياديٌ مطيعٌ أسيّره كيفما أشاء. ومع الوقت تذكرت بأنه لي ذاكرة. فأمسك زمام وقتي ليدور وأعود للوراء. غير أني أضعت طريقي إلى البيت ولم يعد أمامي سوى العودة إلى أطلال الذاكرة، وها أنا أحاول استلال لحظات منسيةٌ قابعةٌ في أغوارها. أقلّد امرؤ القيس في الوقوف على الأطلال مخاطباً وقتي وظلي قائلًا : قفا نبكي من ذكرى .... 

فأنا ووقتي وظلّ أناتي، نشكّل ثلاثتنا تحالفًا متواطئًا على الذاكرة نستل من قيعانها ما نشاء ونتجاهل ما نشاء، ونخفي ونطمس ونحذف ما نشاء بهدف تغيير قدر الحكايات والأحداث والمشاهد. 

فلتكن الذاكرة وهمًا كالسّراب مع أنّه السّراب ليس سرابًا بالمطلق فيما يظهره أمام المسافر في الصحراء، وإنّما يعكس صورًا حقيقةً من قلب الصحراء النائيّة. وما الهذيان في الكلام سوى انعكاس لهذيان الواقع... هذيان الحياة وهي تلامس الموت... هذيان اللّيل على حافة الفجر... وهذيان الذّاكرة على حدود النسيان.