الأسير ثائر حنيني يكتب في الذكرى السابعة عشر لاستشهاد القائد المهندس فادي حنيني

فادي...حين يغدو الفقد وسيلة للحياة

جبريل-480x330
المصدر / السجون-حنظلة

رحيلك رحيل نبي خلف وراءه رسالة ما استطاع فحواها زمنٌ، وفاضت بتعاليمها لتطال بنا إنكفاءاتنا وعزوفنا "إن نسينا أو أخطأنا"، كُنت فادياً لترابٍ كافأك باحتضانك، ميتةٌ رصينة قُدر ما فيها من دويٍ وتشظي وعنفوان، ميتةٌ تُعيدُنا مراراً لتكرارها لمنطقها الفريد لزمانها لابتعاث مثيل لها فتشدنا نحوها بحبائلٍ جدلتها الذاكرة رغماً عن قوانين الطبيعة العبثية، تُندّد بفعل النسيان وتجُرنا إلى ما كان قبلها من حياة فلم تنسكَ الأمكنة وقاطنوها، تُلحُّ علينا بأن كان هنا، تُذيع للمارقين فوح بارودك ودخان القذائف ورجعُ أصداء الأزيز إذا استهدفتك بفكرٍ حملت ونهجٍ سلكت، تهزُ غفو أرواحنا وسِنة عقولنا لنصحو من النسيان المُؤقت، وتُنذِرُ بأن إغفالنا جريمةٌ نقترفها بحق الشجر وقد أورث بظله على مساحات الوطن المُسيَّج بالدماء.

مُنذ كانون الأخير وفقدٌ يلوح في أُفق قريتك يشُدُّك لتصعد درجاً للتراب، وثمَّة بعضَ حياة تشدك عكساً لتحيا، ترتجيك النساء بأن تعود الى الديار التي طبعتك على شاكلتها فارساً أسمر طوى سهلاً بصبره ويديه واحتضن أهازيج من زرعوا الخبز ويسقونه بالنار، بأن تعود الى الديار ليصنعنَ لك قهوةً من مساءٍ وكأسٍ من الشاي يصهلُ بالميرامية والصبح الريفي، تجذبك الهدائة والسكون وقت الظهيرة، تتوسلك بأن تمنحها القليل من ضجرك وتأفؤفك وتذمرك إذ تلفح الشمس جبينك، تستدرجُك الحمائم واليمائم أن عُد لفخاخ شهوةِ العبث طفلاً يصطاد الوقت ليُحرر المكان من ربقة العابرين إذا تكاثر جندهم سعياً لوأد الحياة، تطالبُك بالاسم سُويعاتُ بيت دجن المتأخرة للسهر والسمر، للحديث عن الحب والعشق والغد الآتي لتحرس أشجارها، تتأرجح مثل بندول وقتٍ بين زمانين ومنطقين، تدعوك الأعراس وزغاريد الصبايا في القرية أن تلتفت لمنطق الصوت أن تُراقص مجاز الغناء بدبكةٍ قروية الثوب والدفء، أن تأوب متعباً من شدة السهر والغناء لتغفو في دفء فراشك كموال ريفيٍ عاد لحنجرة حقول "الحصيدة" رائقاً حانئاً آمناً من كل خوف.

تُراودك الحياة بما هي عيشٌ فتصدها عن نفسك غير راغب تُنئيها بعيداً فقد آثرتها لسواك منذ عقدت قرانك على بُندقيةٍ تختار عرس آخر أنت به نيرانه الكثيفة ورصاصاته المُدوية بأهازيجه والورود، تختار نزال من حصدوا شتلات الحلم بالحياة وأرواح وذكريات وتفاصيل وأيام وسني رفاقك الراحلين، تعتنق العنفَ ثائراً محباً وحاقداً، فهو الطريقة وهو الطريق، تعبر البرزخ بين رصاصتين بجسدٍ أنهكته الشظايا والمُطاردة والاشتباكات والانتصارات الصغيرة والهزائم الموروثة الكبرى، تُعلي راية حمراء تخفق ضد تيار يسود، تمضي بفرسك لمُلاقاة حتفٍ صار مثل الخبز والماء والزعتر الجبلي والتبغ جزءً أساسياً من صرة ترحالك بين الأزمنة وبين الجبال، تُصلي بلادُك ركناً تُمليه عليك شرائع الحجارة وتعاليم السهول فتُصلى لجمر الوطن، تزود عن الورد فتوخز بالقلب وتدرك أن الفرادة مهنتك الأبدية ولا تنتظر إذ تنفجرُ كشهبٍ أرسلتهُ عناة الآلهة، تُدوي وتُمعن في البعيد كنجمٍ قصيٍ ترحل تنأى، وفي الجانب الآخر تنداح بعض الزغاريد لجيرانٍ ثكالى احتفاءً "بعرس الزين" عاد مُدرجاً أو لم يعُد، وتسمعُ تلك الزغاريد كترويدة للحقول، تُدرك مغزى اختلاطها بالرصاص حين تصدح الأرجاء بصمتٍ ثقيلٍ، قد رحلت ومن معك وقد بلغت أشُد جسارتك واستفرادك فنازلت موتاً مُدججاً بالحديد والنار، بقبس من شرارٍ استحال جحيماً لتدرك حُلمك بالحلم، حلمك بالحق، حلمك للحياة التي غادرتها لأجلها لا من أجلها، فتنازعتك وأبعدتك.

هنيئاً لروحك هذه السرمدية والخلود اذ ترتجلُ أخيراً عن صهوة الريح وقد تدرج جسدك بالدمِ والعطر، لتشرع جدةً في البعيد لإعداد حنائها لتضمخ كفيك مثل ما اعتادت أن تزُف كل عريس سافر دون عروسه، ليُمنح أرضاً بحجم وطن، تُراباً بحجم كفن، ومُلصقاً فوق حائطٍ يُحيلك رمزاً كطير البلاد يُبعثُ من رماده حياً إذا ما قُتل.