الرفيق الأسير ثائر حنيني يكتب من قلب زنزانته في سجن رامون

في الذكرى الأربعين لرحيل والدة الرفيق الأسير تامر أبو صدوق

هي الذاكرة تصحو حين يستفزها الهواس، الجدران الصلبة الأسلاك الشائكة والأحداث المُتكررة والموجعة وهذه الروائح وكل شيء يعود بي سنوات للوراء، أعلم أنني بهذه السطور أكتب وجعي وألمي أكتبُ عن وجعٍ توغل فيَ حتى العظم، ما أشبه اليوم بالأمس وكأن الجرح مصراً على النزف للأبد لا يريد التوقف، فبالأمس القريب رحلت أعز الناس على قلبي أمي، واليوم رحلت أُم رفيقي تامر.

كم هي عجيبة الأحداث الموجعة تتشابه حتى بأدق التفاصيل وكأن المشهد يُعيدك للوراء، كمٌ من الأحداث والصور والأفكار تتسارع وتأخذك الى سراديب اعتقدت أنك نسيتها وها هي تعود بألم أكبر ووجع أكبر فتفاصيل أدق وأعمق، فها نحن اليوم نجتمع لنُعزي رفيقنا بأُمه، الكلُ منهمك ومُرتبك، الأسرى جميعاً واقفين مُنصعقين حالة من الحزن خيمت على السجن وهدوء تام لا أحد منا يعرف ماذا يفعل، الكلُ مصدومٌ بالخبر فهذه أُم والكلُ منا يعلم ماذا تعني هذه الكلمة، ماذا يعني أن تفقد أُمك وأنت في غياهب السجون، والكُلُ منا يعلم مدى صعوبة ألا تُمارس حقك الإنساني بوضع قبلتك الأخيرة على جبين من أحببت، وألا تقوم بواجبك تجاه أعز الناس على قلبك.

فمن وسط الحدث بدا لي كأن دموعي تتهيأ كعاصفة لولا أني سمعتُ صوتاً خفيضاً يأتي من بعيد أو ربما من الهوة المُظلمة في أعماقي يُعيدني للحدث، وكأني انفصلت عن الواقع، فكل شيء تغير حتى العلاقة بالوقت، لا أعرف كم بالضبط مر من الزمن بين اللحظة والأُخرى، فتحت عيني أخيراً فنظرت لوجه رفيقي أو ما تبقى من وجهه المُنغمر بدموعه كشلالٍ بدون توقف كما وأنع عاد سباحةً الى الشاطئ من بحر أفكاره ورفاقه الأسرى من حوله مصدومين ومرتبكين وأكن الكلام انتهى، والصمت مُخيمً على الزنزانة حتى تجرأ أحدهم كاسراً هذا الصمت المُفجع بقوله :"شد حيلك هذا حال الدُنيا"، ورفيقنا تامر مُنهمكاً بأفكاره ودموعه، ومن اكتوى بهذا الجرح يعلم أن تامر لم ولن يسمع أحداً فهو الآن مفصولٌ عن الواقع.

كمٌ من الأحداث والذكريات والصور تظهر ملامحها وقسمات وجهها الصافية كما في المرة الأولى كما في شبابها لأنه معها يفتح ذراعيه على آخرهما لضمها، ويعرف تماماً أنه كان يضم ضوئها لكنه كان يحس بجسدها وبخفقان قلبها وبحنانه كما تعد عليه دائماً، كان سمع صوتها مليء بالدفء يقول من بعيد: (ما بقدر أروح من دون ما أودعك)، فرفعت شعره وقبلت جبينه كما تعودت أن تفعل دائما تراه فلا يُمكن للأُم أن تذهب بدون أن تودع ابنها، فشعر بحرارتها ودفئها وزال الألم الذي كان بقلبه وتوقف شلال الدمع الذي في عينه، وأدركت أن رفيقنا تامر ذهب مع أُمه، ذهب ليضع قبلته الأخيرة على جبينها، ذهب لوداع أعز الناس على قلبه.