الأسير كميل أبو حنيش يكتب قصيدة الى طفلته السورية المُهجرة من قلب زنزانته في سجون الاحتلال

صفا فؤادي

صفا فؤادي

 

مَرحى لِصَوتِكِ يا صَفا

مَرحى لِرَسمِكِ يا فَتاةْ

يَرِقُ قَلبي حينَ أَرْنو في عُيُونِ غَزالَتي

فَأَرَى الجَمالَ وَقَدْ تَأَلَقَ في الفُؤَاد

رَخى سَكِينَتَهُ عَلَيّ

مَعْ أَنَّهُ ينسابُ مُكتَسِياً

بِحُزنٍ قَدْ تَقاطَعَ مَعْ ظِلاَلِ الكِبرِياء

في القَلبِ مُتَسَعٌ لهذا الحُبْ،

قَلبي تَسَمَّرَ لحظةً

ثُمَ انحَنى لِتَحِيَةِ الآتي الجِدِيدْ

فَعِمِيْ صَباحاً يا ابْنَتي

لا شَيءَ يَحجُبُ عَنْ فُؤادي سِحرَ عَينَيّكِ

اللتَينِ أَطَلَتا مِنْ خَلْفِ هذا الغَيبِ

فَانْقَشَعَ السَدِيمُ عَنِ السِنينْ

يا ظَبْيَةً شَرِبَتْ نَقِيَ الماءِ

مِنْ بَرَدَى وَدِجْلَةَ والفُراتْ

فَغَدَتْ تَمِيسُ بِسِحرِها الشَامِيُّ والبَدَويْ

وبِسِحرِ أرضِ الرافِدَيّنْ

كَيفَ السَبِيلُ الى وِصَالِكِ يا فَتاةْ

وهَذِهِ الأَوْقاتُ والآفاقُ والفُلُواتُ

تَملَؤُها السُجُونْ، حَوائِطُ الأَسلاكِ والإِسْمِنتِ

أدْفِنَةُ الحُرُوبِ

مَعَ انتشارِ الذُعرِ والأشلاءِ

في وطَنِ المَحَبَةِ والسَّلامْ

 

----------

والشّامُ ما انْفَكَتْ تَسِيلُ دَماً

وغزالتي قد أجفَلَتْ في رَوضِها

فَزِعَت وَفَرَّتْ في البَرارِي النائِياتْ

هذا الربيعُ قد استحالَ إلى خَريفٍ يا ابنتيْ

من بعدِ ما عَبِثَت بِهِ كُلُّ الأصابِعِ والبُغاةْ

فتَفَجّرَت هذي المآسي واستَحَلَ بِنا البِلاءْ

ما عادَ شِبرٌ مِنْ ثَرى هذي البلادِ وأهلِها

من دونِ أيَّةِ طَعنةٍ نَجْلاء

فيما تقاطَرَتِ الجُيوشُ

ولَمْ تَنَمْ إلا قليلاً أعيُنُ الجُبَناءْ

من نَحْنُ في هذا الزَمانِ وَقَدْ تكاثَفَ بُؤسُنا؟

من نحن في هذا المَكانِ وقد تَراخىٰ حُلّمُنا؟

لا قيمَةٌ لِحَياتِنا.. لِدِمائِنا.. لدُموعِنا..

لا شيءَ يُبطِئُ أو يُخَفِفْ بُؤسَنا

إلا القَليلَ من الدعاءْ:

وأعطنا -يا رَبُ- خُبزَكْ كَفافَنا في يَومِنا

أملاً ضئيلاً في الحياةِ

وما تَبَقّى مِنْ شَظايا حُلمِنا

ولتُعطِنا -اللهم- ما يكفي قليلاً كي نواصِلَ دَربَنا

لا شيءَ يُشبِهُ هذِهِ المأساةِ في هذا الزَمانْ

وهذه الوَيّلاتِ قد باتَتْ مرافِقَةٍ لنا في صَحوِنا أو نَومِنا

الحُزنُ باتَ صَديقُنا

ومُخَيِّمٌ في حَيِنا

معْ أنهُ ضيفٌ ثقيلٌ بَينَنا

يبقى جديراً بالصداقةِ طالما

يَبقى وفياً لا يُبارِحُ وَقتَنا

أهلاً به من بعد ما طال المُقامْ

 

----------

لازالتِ الصَحراءُ فينا يا فتاةْ

لَو أَنَنا نَرنو قليلاً للأمانْ

لكانتِ الأوطانُ تَنعَمُ بالمَحَبَةِ والوِئامْ

ولكانَتِ الفَتَياتُ مِثلُكِ يَستَرِحنَ على الضِفافْ

لكننا اخترنا الحَياةَ على الجَفافْ

فيا ابْنَتي هذا الجفافُ

حكايةُ المتكاسِلينَ

الناقِصينَ القادرينَ على التَّمَامْ

مازالتِ الصحراءُ فينا يا فتاةْ

نَعشَقُ الغَزوَ المُقَدَسِ

وانتهاكِ المُحْرَماتْ

لا أشهرٌ حرمٌ لدينا

ولا كِرامَ ولا صِراطَ ولا تُقاةْ

هِيَ لَعنةٌ طَرَدَتْ ثَرانا

واستباحَت وَقتَنا

لا شيءَ يَلجُمُ عارُنا ودُموعنا ودمائُنا

ما عادَ في تاريخِنا وزَمانِنا

غَيرَ القِتالِ والانْقِسامْ

 

----------

لا دِربَ يُوصِلُنا الى بِرِ الأَمانْ

وكأَنَّ لحظَتَنا المَليئةِ بالدِماءِ

تَسَمرَت بِمَكانِها مُذْ ألفَ عامْ

لا بَدرَ في هذا الظلامِ المُدْلَهِمْ

يُنيرُ دربَ العالقينَ بِتيهِهِم

يِمشُوا طويلاً للأمامْ

يمشوا طويلاً للوَراءِ

ويَحسَبونَ بِأنَّهم ماضُونَ دوماً للأمامْ

أنى لنا أن نَستَفِيقَ وقد غَدَونا

الفائزينَ بِيانصِيبِ الاقتراعِ

على مُسابَقَةِ النِّيامْ

ورَيّثَما نصحو كأهلِ الكهفِ

نصحوا، لا نَعي كيفَ البدايةِ والخِتامْ

وهذه الأحلامُ تُزْرَعُ خِلسَةً

مِثلَ الحَشِيشِ ونَبتَةِ الأفيُونِ في جُنحِ الظلامْ

وإذا بِنا نَحيا قليلاً يا ابنَتيْ

نحيا وهذا أضعَفُ الإيمانِ

في شَرعِ الطغاةِ

القابضينَ على الزِمَامْ

نحيا قَليلاً يا فَتاتِي

بأقَلِ قَدرِ من الهواء

وأقلِ قَدرِ من الهَناءْ

وأقلِ قَدرِ من الكَلامْ

 

-----------

إخوانُنا.. أعدائُنا.. حُلفائُنا..

لا يوقِفونَ الرَقصَ فَوقَ جِراحِنا

بِتنا كَحَقلِ تجاربٍ

فيُجَرِبونَ سِلاحَهُم بِدمائِنا

ونَئِنُ مِن تحتِ الركامْ

تَتَقاطَعُ المأساةُ بالمَلهاةِ

نُعلِنُ نَصرَنا الدَّامي على أنقاضِنا

فيما يُرى الأعداءُ من كلِ الجِهاتْ

يُراقبونَ ويَسخَرونَ ويضْحَكونْ

على بلاغَةِ جُرحِنا

جرحٌ عميقٌ .... رُعافٌ

يغري الذئاب فَترتَوي تلكَ اللِّئامْ

ويا بِلادَ الشامِ يا بَلَدي الحَبيبَةْ

كُلُّهم طَعَنوكِ يا بلد الرَوابي والسواقي واليَمَامْ:

الآباءُ والابناءُ

والإخوانُ والخِلانُ

والأعداءُ والحلفاءُ

والأخوالُ والأعمامُ

قد ولَغوا بهذا الدَّمْ

وتفاخروا بالفَتحِ والتَدميرِ والتَهجِيرْ

كُلُهُم ساقوا السَبايا

كلهم أدموكِ يا شامَ المحبةِ

مزقوكِ وحولوكِ إلى حُطَامْ

وتَحالفَ المُتَزَندِقونَ مَعَ الهُداةْ

مَعَ الزنادِقَةِ التُقاةِ

مَعَ البَناديقِ الطُغُاةْ

مَعَ الحُفاةِ مَعَ الرُعاةِ مَعَ البُغاةْ

وكُلُّهُم باتوا الجُناةْ

لَمْ يَسْلَمِ الشَّرَفُ العُروبِيُ الرفيعُ مِنَ الأذى

فيما أُُريقَ الدَّمُ في الطُرقاتْ

ما عادَ يَلزَمُنا المَغولُ أو التَتارُ أوِ الفِرِنجَ

لكي يَجوسُوا في الديارْ

ويدمروا بغدادَ والفيحاءَ والشَّهباءْ

باتَتْ لدينا زُمرَةٌ قد أغرقت أنهارَنا بالدَّمِ

واحتَفَلَت بإحراق الرجالْ

فيما البَقِيَّةُ قَدَّمَت طاعاتِها للأجنبيْ

وَوَاهبينَ لأبرَهَه الحَبَشِيُ مُفتاحَ الجزيرةِ والقَنالْ

ويُكرِمونَ أبا رُغالْ

هذي المآسي كالنِّصَالِ تَكَسَرَت فَوقَ النِّصالِ

إذا السِّهامُ تَواتَرَت في خِفَةٍ إِثرَ السِّهام

لا شَيءَ يُشبِهُ عارُنا

فلدى الأَعاربِ يا ابنتي

اختلطَ الحَلالُ مَعَ الحَرَامْ

يتشددونَ بِنافِلِ الصَلَواتِ

أو رَجمِ الزُناةْ

لكنَّهُم يَزنونَ في شَهرِ الصِيامْ

 

----------

كَذَبوا عَلَيّنا يا فَتَاةْ

وَهُم سُكارى بالدِماءِ ويَرفَعونَ اللهَ في راياتِهِم

ويَحَلِلُونَ الموبِقاتْ

لَمْ يَفهَموا التّاريخَ والسُنَنَ القديمةِ

غيرَ جذٍ للرؤوسِ

والاستِباقَ على العَذارى البائساتْ

كذبوا علينا

حامِلوا الراياتِ في بَعثِ العروبةِ من رُقادِ مَواتها

وإذا بِهِم يهذون في لغةِ الأعاجِمِ

والسباقِ على الفُتاتْ

كذبوا علينا يا فتاةْ

يَرغُون في لغةِ التَّقَدُمِ والحضارةِ والتَّنَوُرِ كاذِبينْ

يَنشِدون الغربَ كي يَمحُو دمشقَ

ويَستَوي في أرضِ دِجلَةَ والفُراتْ

كذبوا علينا يا فتاةْ

ويَحيَونَ في رغَدِ الحياةِ

منَ البدايةِ للمَمَاتْ

ويُفسِرونَ ضَياعُنا وهلاكُنا

بمعاجمِ التاريخِ والطَّبَقاتِ

فيما البلادُ تَغُصُ في هَذي الغُزاةِ المارِقِينْ

وهذه الطُرُقات تَحفَلُ باكتِظاظِ اللاجِئينْ

ومُفارقاتُ تلاقَحَتْ بِمِفُارَقاتِ

ولم تَلِدْ إلا المَزيدُ

منَ الغموضِ ومن عَجيبِ الأُحجِياتْ

فَلَقَد تهالكَ حُلمُنا العَرَبيُ

في وطنٍ عظيمِ الأُمنياتْ

بعد حينٍ سوفَ يُنسى كُلُ شيءٍ

فيما سَيَنشَغلُ الجُميعُ بالاحْتِفالِ بالانْتِصارِ

على الجَماجِمِ واجتِثاثِ الياسمينْ

هذي انتصاراتٌ تُوزَعُ فوقَ أشلاءِ الضحايا المَيّتينْ

فالصَمتُ أبلغُ يا فتاتي

حينَ يختلفُ التُقاةُ على اليَقِينْ

وسَيَصدُقُ الشُعَراءُ حينَ يُجاهِرونْ

أو حينَ يَعجزُ نُطقُهم عن هذهِ المأساةْ

فَيُقاتِلونَ ويُقْتَلونْ

وسيكذبُ الخُلفاءُ في هذا الزَّمانِ

إذا غدا أتباعُهُم جيشٌ مِنَ  الغاوُونْ

وسَيَكتَفي حُكماءُ هذا العَصرِ

بالتهريجِ والهذيانِ زوراً

حِينَما يُصْغِي إلَيهِم دائماً

جَمعُ الغُلاةِ الجاهِلونْ

وَيَعُمُّ في الأرضِ

التباكي والتَشَرذُمُ والصِدَامْ

----------

 

ويا فتاتي

كيفَ يَصلُحُ حالُنا العَرَبِيُ

فيما نَحنُ في هذا السُقامْ

ويا صَفائي

كَيفَ يَصْفُو حُلمُنا العَرَبِي

وهذهِ الأجواءُ حُبلى بالتَضَادِ وبالغُبارِ وَبالغَمَام

وكيفَ يَنموُ الخَيرُ في أوطانِنا

مادامَ يَغدُو اللصُ في ثَوبِ الإِمامْ

والحَالُ أسوَءُ يا فَتاةُ إذِ انقَلَبنا:

صارتِ الرُومانُ تَفتَحُ بابَها للهاربينَ

منَ انتشارِ الجُوعِ والمَوتِ الزُؤام

فيما الكَنانَةُ والجَزِيرَةُ

-أرضُ مِكةْ- وسائِرُ البُلدانِ

ما فَتِأَت تَنَامُ

ولا تَخِفُ لنَجدَةِ الخِلانِ

في هذا الزِحامْ

 

    ----------

ويا فتاتي لا سَبيلَ أمامَنا

إلا التَشَبثَ بالأملْ

فَقِفِي على قَدَميكِ لكنْ حاذري

مِنْ أن تَكونَ كَوقفَةِ الأطلالِ

في زَمنِ القَبائِل والقَصائِدِ والهُيامْ

ما نحنُ إلا أُمةٌ وقَفَت على أطلالِها

لِتُقَدِسَ الماضي السَّعيدْ

نَبكي ونَهذِي بالكلامْ

مُنذُ امرِؤُ القَيسِ الذي ابتَدَعَ الطَّريقَةَ بالوُقوفِ

ونَحْنُ في أوّجِ الحَماقَةِ واقِفينْ

وَذَارِفِي دَمعٍ على أَثَرِ الخِيامْ

مُستَذكِرينَ الغِيدَ في زَمَنِ الصَّبابَةِ والغَرَامْ

نَتَأمَلُ الدِمَنَ العَتيقَةَ دارِساتٍ للتُراب

ونَقُولُ شِعراً في المَواقِدِ والسُخامْ

ونَتُوقُ للغزوِ المُقَدَّسِ والسَبايا

ولِبَيعَةِ الأُمراءْ

ونَحِنُّ للدَّمِ وهو يَقطُرُ

أَحمَرُ القَطَراتِ مِنْ طَرفِ الحُسَامْ

ويا فتاتي

لَستُ أشجُبُ هذهِ الوَقَفاتِ

حِينَ تَكونُ ذا معناً يَليقُ بِأُمةٍ

تَبكي على زَمَنِ الكِرامْ

أو تَقتَفي أَثَرَ السوالفِ والعِظامْ

لكنَّ للماضي دُروسٌ ليسَ يَكفي

أن نُسَطِرُهُ ونَفهَمَهُ على أهوائِنا

لا تبكي للماضي، فما الماضي

سوى العَصرُ الرَغيدْ

فَقِفِي على قَدَمَيكِ يَوماً واذْكُرِي

مُستَقبَلاً يَنأى بِنا

...عَنْ كُلِ ما يُذكِي العَدَاوةِ والخِصَامْ

 

----------

وعِمي صباحاً يا ابنتي

أرنو إليكِ بِعَينِ قلبي كلَّ يومٍ

فأراكِ أجملُ ظَبيَةٍ تَتَراقَدينَ على المدى

دامت لكِ الأيامُ والسَنَواتُ والعُمرُ المَديدْ

ودُمتِ لي

ولأَهلِكِ الوُدَعاءْ

يا حُلوَتي وصَفا فُؤادي

رُدي التَحِيةَ يا صفا

فالقلبُ فيكِ قَدِ احتفى

والياسمينُ وراءَ صَوتِكِ قد تَناثَرَ واقتفى

رُدي التَحِيَةَ يا فتاةْ

فَلَيسَ أبلَغُ من حُروفِكِ

حين يعلو الثَغرُ وَهْجُ الإِبتِسامْ.