الأسير كميل حنيش يكتب من زنزانته..

نتنياهو وحكومته الخامسة

كميل

انتهت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بما أفرزته من نتائج كانت مُتوقعة سلفاً، بل وأعادت استنساخ ذات الخارطة السياسية السائدة في العقد الأخير، وخرج نتنياهو المُنتصر الوحيد من هذه الانتخابات لا يخشى الخصوم السياسيين المرة تلو الأُخرى بالإطاحة بهم من سُدة الحُكم، وبعد أن تمكن من ترسيخ دعامته الدائمة في حزب "الليكود" ومُعسكر اليمين بلا مُنازع، حيثُ سعى نتنياهو الى إضعاف حُلفائه التقليديين وتحويلهم الى أحزاب تابعة وضعيفة، وربط قادتها مصيرهم الشخصي والحزبي بمصير نتنياهو، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ الدولة العبرية.

ونتنياهو المزهو بانتصاره الانتخابي الأخير لم يهزم خصومه ومُناوئيه فحسب، وإنما تمكن وسيتمكن من إخضاع مؤسسات الدولة لارادته الشخصية والحزبية، في ضوء الحديث عن إمكانية سن قانون في الكنيست الجديد لحماية نتنياهو من المُلاحقة القضائية وإمكانية تقديم لائحة اتهام ضده، وفي حال جرى إقرار مثل هذا القانون فإن المُؤسسة التشريعية التي من المُفترض أنها مُمثلة للشعب ستعمل على شرعنة الفساد الرسمي، فيما ستبقى مؤسسة القضاء عاجزة عن مُحاسبة نتنياهو، وهو ما يكرس الفساد المحمي رسمياً من الدولة ومُؤسساتها، وهذه الحالة فريدة في تاريخ مؤسسات الدولة، وهي تعكس فساد المُجتمع العبري الذي أعاد انتخاب نتنياهو وفساد الأحزاب ومؤسسات الدولة في حال جرى الالتفاف على هذه القضايا وحماية نتنياهو من المُلاحقة، كما تنضوي في المُجتمع الصهيوني الذي لا يُبالي في الفساد الحكومي، وأن أولوياته حتى لم تعُد أمنية كما برزت عليه سلسلة الانتخابات السابقة، وعلى ما يبدو أن نتنياهو تمكن من إقناع الجمهور بأنه "هو" ولا أحد غير "هو" أفضل لهم من كافة النواحي، وبهذا تأتي الصورة هذه المرة أكثر تركيباً من المرات السابقة.

في الواقع لقد أثبت نتنياهو نفسه كشخصية سياسية قوية في الداخل والخارج، وتفوق رُبما على كافة زُعماء الذين حكموا إسرائيل، الأمر الذي عزز في أعماقه جنون العظمة السياسي، فهو لا يقبل أن يُقارن بأحد ممن سبقوه بالحُكم، ويرى بنفسه شخصية سياسية فريدة ليس في الداخل الإسرائيلي فحسب، وإنما يرى بنفسه شخصية ذات وزن عابر، وقد وضعته الانتخابات الأخيرة في موقع الرجُل القوي والبارع والمُحنك والداهية رغم ما أحاط به من مُلابسات وما وُجه إليه من قضايا فساد كبيرة، ورغم تحالف ثلاثة جنرالات سابقين مع حزب "يُوجد مُستقبل" بقيادة "يائير لبيد"، تكتلوا جميعاً للإطاحة به إلا أنهم فشلوا وحصل حزبهُ على أعلى الأصوات، وتحطمت أحزاب تقليدية كحزب العمل، فيما ضعُفَ حُلفائه التقليديين في مُعسكر اليمين وبالكاد وصلت ثلاثة أحزاب منها إلى نسبة الحسم، وهو ما يُكرس حزب "الليكود" كأقوى حزب في الدولة، ويُعزز من قوة ومكانة نتنياهو ويفتح الطريق أمامه لحكم إسرائيل لسنوات طويلة في ظل غياب مُنافسين حقيقيين له ولحِزبه.

كما أثبت نتنياهو بأن لديه رؤية استراتيجية مُتماسكة وتتميز بحدتها ومنهجيتها، وتتصادم في كثير من الأحيان مع رؤية مؤسسات الدولة كما في الملف النووي الإيراني وملف التسوية والسياسة الخارجية، بل وفرض رؤيته السياسية والاستراتيجية على مؤسسات الدولة، واخضاعها لإرادته الشخصية والسياسية، وهذه الاستراتيجية يُثابر نتنياهو على الامساك بها بمنهجية وعناد، ويُصرُ على متابعتها بصبرٍ وحنكة كما وأثبت بأنه مُناور بارع ويُحسن استخدام التكتيك السياسي وهو مُحاط على الدوام بجيش من المستشارين والخبراء والمختصين بالأحاديث السياسية وإدارة الأزمات وتصنيعها، وهؤلاء يحرص نتنياهو على انتقائهم بعناية فائقة، ويُساعدونه في اتخاذ قراراته وإدارة شؤون الدولة.

واستراتيجية نتنياهو تقوم على القوة التي يعتبرها حجر الزاوية في أي عمل سياسي، وأن هذه القوة هي الوحيدة التي من شأنها أن تخلق التحولات وتجلب السلام لإسرائيل، وهذا الموقف هو امتداد لذات الرؤية الصهيونية التقليدية التي عبر عنها "جابوتنسكي" و"بن غوريون" في فكرة الجدار الحديدي، وما أضافه نتنياهو لهذه الاستراتيجية هو الهيمنة الشاملة على المنطقة وليس الاكتفاء بالردع وحسب، علاوةً على تحويل إسرائيل الى قوة عالمية وشريكاً مهماً في القرار الدولي، والقوة التي يُؤمن بها نتنياهو لا تقتصر على القدرات العسكرية وشن الحرب وحسب، وإنما القوة التي تشمل القدرات العسكرية والأمنية والاستخباراتية والاقتصادية والدبلوماسية والعلمية والتكنولوجية.. إلخ، فهذه القوة وكما عبر عنها في كتاباته وكتبه ومقابلاته الصحفية هي الكفيلة لتعزيز علاقات إسرائيل مع الحلفاء واقناعهم بأن إسرائيل شريك مناسب ومهم وليس مجرد حديث، وهذه القوة أيضاً من شأنها أن تكسب حلفاء جُدد كما هو الحال مع بعض الدول العربية والإسلامية، ومن شأن القوة أيضاً أن تردع أعداء إسرائيل وتقنعهم أنه لا يمكنهم هزيمتها وينبغي التعاطي معها على قاعدة القبول بأمر الواقع والاستسلام لهيمنتها وطموحاتها في المنطقة، وفي حال استمرت هذه الدول في عدائها لإسرائيل لن يكون مصيرها سوى الدمار.

وقد أصر نتنياهو على هذه الاستراتيجية ولم ينتهج أي نهج آخر وقاوم كافة الضغوط الداخلية والخارجية خلال العقد السابق لإعادة احياء عملية التسوية الميتة التي تحتاجها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للمساهمة في إدارة أزمات المنطقة، وهو ما أسس لمنهج نتنياهو وعبد الطريق أمام رؤيه السياسية التي يعتزم فرضها في فترة الحكومة الجديدة، فبعد حسم المعركة الانتخابية الأخيرة التي ربما كانت هي الأهم في تاريخ نتنياهو السياسي بات الآن جاهزاً لتطبيق مشروعه السياسي والاستراتيجي، وتخدمه في هذا المشروع إدارة أمريكية طَيِّعة كإدارة "ترامب" وهذا المشروع يتلخص بالتالي: -

 

أولاً/ على الصعيد الإسرائيلي الداخلي، فأثناء معركة الانتخابات الأخيرة وما بعدها أقنع نتنياهو ناخبيه وخصومه على حدٍ سواء أنه لا بديل له، وأنه لا يُمكن إزاحته عن الحُكم بأية وسيلة، وأن "الليكود" ومُعسكر اليمين والأهم من ذلك نتنياهو ذاته سيبقى في الحُكم مدة طويلة، وأنه من مصلحة الدولة العبرية بقاءه في الحُكم رغم ما يُثار حوله من تهم بالفساد، وبعد حسم هذه المعركة لصالحه بات المسرح مُهيأً لفرض أجندته الشخصية والحزبية والأيديولوجية على الدولة وبُنيتها واقتصادها وإضعاف سلطة القضاء وتغيير شامل في السياسة الخارجية وعلاقات إسرائيل الإقليمية والدولية، بعبارة أُخرى "إخضاع الدولة لرؤية حزب الليكود الأيديولوجية"، ومواصلة سن قوانيين ذات طابع عنصري، وهو ما يوفر الأرضية لإضعاف وتحجيم الحركات والأحزاب المُناوئة لحزب "الليكود" ومُواصلة تضيق الخناق على العرب الفلسطينيين في الداخل وإبقائهم على هامش الحياة السياسية والاقتصادية.

ثانياً/ أما على صعيد عملية التسوية مع الفلسطينيين، وبعد أن جرى تدميرها عملياً وانتهاء حل الدولتين يعتقد نتنياهو بأنه قد حان الوقت لفرض تسوية على الفلسطينيين ترتكز بالأساس على الحُكم الذاتي وفكرة السلام الاقتصادي، وهو يُؤمن أن الفلسطينيين سيُقبلون رغماً عنهم بما يُعرض عليهم إذا اقتنعوا بأن إسرائيل قوية ولا يُمكن هزيمتها عسكرياً ولا حتى سياسياً ودبلوماسياً، وأنه لا يمكنهم الحصول على أكثر مما تُقدمه إسرائيل لهم، أما "صفقة القرن" فهي ليست خطة أمريكية وإنما هي ذاتها رؤية نتنياهو للحل السياسي وجرى إلباسها ثوباً أمريكياً وتبناها "ترامب" رسمياً، أما مضمون هذه الخطة فهي مُجرد الوصول لحكم ذاتي في بلدات ومُدن الضفة الغربية، مع تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتكريس فصل قطاع غزة عن الضفة وتأديب الانقسام الفلسطيني، وإدارة القطاع باعتباره أزمة إنسانية تستدعي مُساهمة العالم في حل هذه الأزمة، وبالطبع مع الغاء حق عودة اللاجئين والعمل على توطينهم، فيما سيجري ضم الكُتل الاستيطانية الكُبرى في الضفة ومناطق الأغوار تحت السيادة الإسرائيلية، والإبقاء على سيطرة إسرائيل عسكرياً على بقية مناطق الضفة، ويعتقد نتنياهو أن الفرصة باتت سانحة لفرض هذه التسوية في ظل إدارة "ترامب" وضعف الضغوط الدولية على إسرائيل واستمرار حالة الانقسام الفلسطيني وانشغال العالم العربي بحروبه وأزماته الداخلية.

ثالثاً/ أما على الصعيد الإقليمي، فيرى نتنياهو أن سياساته المُتعنتة قد أثمرت، وأنه حقق وحده وليس أحداً غيره اختراقاً مهماً في العالم العربي بعد أن أقنع العرب بأن مُبادرة السلام العربية لن تجلب السلام وأنهم يجب أن يدفنوها بعد أن ماتت، ويتعين عيلهم أن يُباشروا في تطبيع علاقاتهم مع إسرائيل دون ربط هذه العملية بحل القضية الفلسطينية، ويتوقع نتنياهو بأن تجري توقيع مُعاهدات سلام وتطوير للعلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية مع عدد من الدول العربية على قاعدة الهيمنة الإسرائيلية الكاملة على المنطقة، ويرى نتنياهو أن تعزيز العلاقات مع هذه الدول من شأنه أن يُضعف الفلسطينيين وأنها ستُمارس ضغوطها عليهم لقبول "صفقة القرن" والمُوافقة على توطين اللاجئين، أما الأهم بالنسبة لنتنياهو هو تدمير ايران، فهو يرى بإيران القوة الوحيدة المُتبقية التي تحول دون فرض إسرائيل هيمنتها الشاملة على المنطقة، ويتبجح نتنياهو أنه وحده من أصر على رفض الاتفاق النووي مع إيران، وأنه هو من أقنع "ترامب" بالانسحاب من هذا الاتفاق وفرض عقوبات مُشددة عليها، ويرى بهذه العقوبات المُتصاعدة تدريجياً أنها ستُأدي الى إضعاف إيران، والتسبب بأزمة اقتصادية خانقة لها، وهو ما من شأنه أن يُجفف مواردها المالية، مما سيعكس نفسه على قُدراتها وتأثيرها على المنطقة، مع الاستمرار في استنزافها في الحروب اليمنية والعراقية والسورية، ومُواصلة منعها من التغلغل في سوريا، مع بقاء ضمان سوريا ضعيفة ومُنهكة، وهو ما يُضعف في نهاية المطاف قوى المقاومة في المنطقة، وكل هذا لتوريط إيران في حربٍ إقليمية والضغط لتشكيل تحالف عسكري دولي بقيادة الولايات المتحدة لتدميرها كما جرى بالعراق، ونتنياهو مُصمم وعازم على تنفيذ هذه الاستراتيجية مهما كلف الثمن.

رابعاً/ أما على الصعيد الدولي، فإن نتنياهو يطمح في تحويل إسرائيل الى قوة عالمية ووضعها في مصافي القوى العُظمى كروسيا والصين والهند والاتحاد الأوروبي الى جانب الولايات المُتحدة وتطوير علاقاتها مع مُختلف الدول الفاعلة في العالم، واستمرار التغلغل في آسيا وافريقيا، ومواصلة اختراق العالم العربي والإسلامي، واستكمال اندماج إسرائيل في الاقتصاد العالمي وتحويل إسرائيل الى قوة اقتصادية عالمية من خلال التخصص بالصناعات التكنولوجية والعسكرية المُتطورة.

هذه هي رؤية نتنياهو الاستراتيجية للسنوات القادمة، وستتركز مهام حكومته الجديدة على مسألتين هامتين، الأولى تصفية القضية الفلسطينية، والثانية تدمير إيران، ومن غير المُستبعد أن تُقدم إسرائيل على شن حرب على غزة أو لبنان إذا استدعت الضرورة لذلك.

 

أما معيار النجاح والفشل لهذه الرؤية فهي منوطة بالتطورات، والسؤال المطروح: كيف سنواجه نحن الفلسطينيون والعرب هذه التحديات الكارثية؟ هل نحن مُهيؤون فعلاً لحمل مهامنا والتصدي لهذه المخاطر الوُجودية؟ من الواضح أننا غير مُهيؤون، فلننتظر ما ستُسفر عنه التطورات المُتسارعة من حولنا.