الأسير كميل حنيش يكتب من زنزانته

سِرُ الشِفاءِ من الحنين..

الأسير الشاعر كميل أبو حنيش من سجن "رامون"
المصدر / حنظلة

مُهداة إلى

الشاعر عبد الرحيم الشيخ

،،،

قُلتَ "الفصولَ بشارةٌ موصولةٌ ببشارةٍ
بدءٌ برسم الانتهاء"

فما البداية يا صديقي،

وما النهايةُ!

نحنُ نحيا في ثنايا صولة الأيام

والزمن المُلغز

دائريٌ لا يكُفُّ عن المجيء

والأمس مثلُ اليومِ مثل الغدْ

ويدورُ هذا الكون

لا فُسحةٌ بين الفُصولِ سوى السراب

لا شيء يلمع منبئاً ببشارةٍ وسط الضباب

ومُعلناً "فصلُ الحنين إلى الربيعِ وقد تأخر"

أو تأجل أو تثاقلَ خَطْوَهُ في زحمة الطُرُقات

ولن "يرى ذاك الحبيبُ جراحه تنمو بعيداً في المروج"

خذلته عشتارٌ ولم تهبط مغامرةً هناك لعالم الأموات

أحجمت الحبيبةُ

عن فداء حبيبها في العالم السُفلي

لكي يعودَ كما يعودُ الغائبون

من برزخ الموت الطويل

وقد تضرج بالحياة

فقد تجهمَ حُلمهُ في أن يعود

كما الفراشة في الربيع

فهناك يقتظ المدى بالزمهرير

ولن يرى غير الغياب

وغُزاتنا يأتون في وَضح النهار

وبكلِ وقتٍ يرغبون

لكنهم لن يعرفوا ما النرجس البري

أو قرن الغزال

وقد تناثر في التلال

لن يعرفوا كيف الحبيب جراحهُ تنمو

بعيداً في السهول وفي الجبال

لن يعرفوا أطوارها

سيُسارعوا ويغيروا أسمائها

ويُهجـّنوا أشكالها

وغُزاتُنا يتسللون بِحِلكةِ الليل الطويل

ويمكثون بأرضنا دهراً قصيراً أو طويلاً

ثُمَ يخمُد بَأْسَهُمْ

فيُقاتلون ويخسرون ويرحلون

والعاشِقون أنِسوا

بـِوادي العِشقِ ناراً في البعيد

فتهيئوا أن ينزلوا مُتوهجين

ثم استقلوا باسمين الى السماء

وظافرين بعشقهم

وتُرابُنا بالدم يظفر

وتُرابُنا شكلٌ من الوجعِ المُقطّر

جاست سنابك خيل اصناف الغُزاةِ تُرابُنا

والله يرقب حُلمنا؟ أم حلمهم؟

ولستُ أدري

كيف يغدو الله تاجرَ حنطة في شرعهم

أو صاحِبُ الختمِ الأسيرِ على كواشينِ الوُعود

أو كيف يغدو ربُ حربٍ في الهِضاب

كذبوا طويلاً كي يعودوا

من مزاميرٍ مُمَوسقةٍ على لحنِ الجنائز والخراب

وكيف يأتي اللهُ إبراهيم بالخبر السعيد

عن البِشارةِ والوُعود

ما ذنبُنا إن جاء هاجرَ حملها

فيما تأخر حملُ سيدةِ النساءِ

لكي تلد شعبَ الإله

"ما شأننا إن كان إسماعيل أو إسحاق شاةٌ للإله"

وقد تشابهت الشياه

لكي نرِث تلك الفجيعة والحداد

مُقدَمينَ كما القرابين الشهية للطُغاة

والله ينسانا طويلاً

لم يُكلمَ أُمُنا في التيه يوماً

وقتَ ساعةِ صحوها

أو عندَ ساعات الرُقادِ

يرنو إلينا من بعيد

وقد تذكر شعبه المنذور للنكبات

ويعودُ مكلومَ الفؤاد

----------

أما الغزالة وابنها

لُغزان من وجعٍ ومن ظمءٍ

برسم البحث عن معنى

ونأياً عن دناءة شرعة الطيني في الإنسان

هذي الغزالة وابنها جرحان في وجه الزمان

هو خشفها وحبيبها

هزت له جذع النخيل

وقد تألقَ وجههُ

فأصاخَ سمعاً للهفيف من اهتزاز السعفِ

أدرك دربه

ها قد تعلم درسه

تلك الغزالة أرضُنا

قد مرّ قومٌ واستراحوا في الرياض

تجذروا.. طال البقاءُ

تآلفوا وتزوجوا

هذي التلال بِقربِ "يم"

والمليكةُ حينَ أدركها المخاض

وقد تكلمَ خشفها من تحتها

ابتسمت له

هزت له جذعاً

وغنت واقشعرت

حينما رأت البشارة

في ابتسامته المريرة

وسيغدو لغزاً موجعاً مثلَ الحديد

"لن يُعلن ابن نبي الله توبته

على خشب الصليب"

ولن يُبارحَ حلمه ويرى الحبيب جراحه

ويرى الحديث صليبه

ولن يبالي بالقيامةِ بعدما

بات الصليبَ رسالة للحالمين

بعالم المعنى البعيدِ أو القريب

ومجدهُ اكليل شوكِ السائرين الذاهبين لحتفهم

طوعاً وحباً في القِتال

على غرار ابن الغزالة في النضال

"فألف طوبى للذي حمل الصليب على طريق الجُلجُلة"

وألفُ طوبى للذين تمثلوا هذي الحكايةَ مسألة

وألف طوبى للذي من أجلِ خير الناس

قد حمل البشارةَ قنبلة

وألف طوبى للصليب شعارنا في المرحلة

وألف طوبى للجمال

إذا تحدرَ من سُلالات الزواج الحُرِ بين فراشةٍ وقُرُنفُلة

----------

والخسارةُ يا صديقي فهي لأُنثى

سحرها كيدٌ لنا

نهوي إليها مُرغمينَ ومُثقلينَ بوهمنا

وإذا بنا ننهارُ في أحضانها

والعارفون بسرها

والمُفرطينَ بعشقها

يتهالكون لوصلها

والقلبُ ينجو: كلما أخذت خسائرهُ تزيدُ عن المدى في حدها

والقلبُ يصحو: كلما طارت بلابلهُ الوديعةُ في البعيد لحتفها

والقلبُ يحلو: كُلما لسعتهُ نحلةَ عشقهِ في هجرها

والقلبُ يطفو: فوقَ سائله الشفيفِ إذا تضوعَ بالحنين الى الغزالةِ في وداعةِ شكلها

إن الخسارة يا صديقي مكسبٌ

للعارفين الباحثين عن اقتناصِ الوجدِ في بيدائها

"موت القلوب نضوبها ممن نحب"

ودخولها فصل الصقيع

فالدفء يبني حالة قلبية

والبرد يبني حالة ذهنية

قضت الطريقةُ أن نعودَ مُعذبين بكلِ حب

فكُلُ حبٍ كان يُتعبٌني طويلاً

كل حب

وكلَ حبِ كان يُشعِلني حريقاً

ثمَ يتركني رماداً

كل الحب

قضت الطريقةُ أن أكونَ مُبعثراً في كلِ حب

وكلَ حبٍ كان يُسقيني أجاجاً كلَ حب

وكلَ حبٍ كان يُغلقُ شارعاً

فيما سيفتحُ شارعين لأي حب

"لو يستطعنَ قراءة الفُصحى"

لدُهِشنَ من فصلِ الحنينِ بسِفرِ عمري

وهو يهوي كالفراشة في اللهب

لو يستطعنَ قراءة الفُصحى

لفزعنَ من شكلِ الأنين بقلبِ سِفري

بِطريقهِ نحو التماثُلِ للشفاء

فليستشطنَ من الغضب

أُرثي لنفسي عِشقها وحنينها

وقروح قلبي والجمال المستبد بِكلِ زهر

وتعود سادنة البداية كالغزالةِ في الربيع

وينتهي فصل التعب

----------

حارب نهايتُك البعيدةُ كي تُصالحَ أولك

واجه حماقتك الشديدةَ كي تُقابلَ حكمتك

قاتل هواجسك العديدة كي تُلاقي مأمنك

واقرأ تجاربكَ الجديدةَ كي تجد ما يكتُبك

وأفرغ وساوسك العنيدة كي تجد ما يملئك

أُسجي التحيةً للحنين وقد تطاول دربه

أُسجي التحيةً للفرح

أُسجي التحيةً للخسارات المجيدةِ مع زُمالات القدح

وأُواصلُ العزف الحزين بنشوة الوجع اللذيذ

إذا تهتكَ في ليالي السكرِ بالغةُ المرح

وأنام محتفياً بإحصاء الخسائرِ

والفرار على حِصان الحلم

يأخذني بعيداً في الوجود إذا جمح

ما التشاؤم يا صديقي

إلا مهنة المُتفائلين إذا استفاقوا بالزبد

أو محنة المتحاربين إذا استحال قتالهم

شكلاً من العبث الطويلِ إذا استمرَ الى الأبد

أو زفرةَ العُشاقِ حين يزورهم

ضيف الحبيبِ بحلمهم وقد استفاقوا دون أن يجدوا الجسد

أو لعنة الشعراء حين ينافقون

وهم يرون البؤس في هذى الحياة

ويرون في معنى المُروءة والشجاعةِ

صوت عارِ قد خمد

----------

أُفشي لنفسي سرها

إن الحنين هلاكها

فيما الغزالات الجميلة سر قوتها ونقطة ضعفها

سيان كان الهجر أو كان الوصال

وسأحتفي بالممكنات وسحرهن

وسأقتفي أثرَ البنفسج في الحكايات الجديدة

واحتمال الياسمين

إذا استحال الياسمين إلى احتمال

وبقوت يومي في الخيال سأكتفي بالوهمِ

حين يُحولُ المعنى الظليلُ إلى جمال

وسأحتفي فيما تبقى من كؤوس العمرِ

رغمَ سداحة الخسران

والأمل الكثير إذا أطلَ على المحال

وبفارغ الصبر الجميل سأنتظر

والقلبُ يغدو حينها نعم الدليل

الى الدروب اليانعات المُفضيات الى الكمال

يا قلبُ ويحكَ دُلني

يا قلب أين تقودني

نحو البدايات السعيدةِ

حين كان القلب مكشوفاً على لوح الجلالة والجلال

أم نحو دهليز النهايات البعيدة

حين يغدو الغيبُ مسكوناً

بهاجس الانبعاث والاكتمال

والدرب يحجبه الضباب

وستنتهي هذي القصيدة

وسينتهي وجع التمني

والذهابُ إلى الإياب

بدءٌ برسم الانتهاء

عودٌ على بدء القصيدةِ

والفصولُ بشارةٌ: للحالمين بعودةٍ بعد الغيّاب

للعالقين بقسوةٍ في برزخٍ

بين الكهولة والشباب

ولربما تغدو الفصول اشارةٌ للراقدين

براحةٍ تحت التراب

أو ربما تغدو الفصول بشارةٌ

سِرُ الشِفاءِ من الحنين

إذا استحالَ الى عذاب

وسينتهي هذا الخريف

سينتهي

وسيُولدُ الوقتُ الجميلُ

وينتهي عصرُ اليباب