الأسير كميل أبو حنيش يكتب "مفارقات الرقم ٦ مليون"

أونروا
المصدر / خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

أنكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجود ستة ملايين لاجئ فلسطيني لا يزالوا يقبعون في عشرات المخيمات منذ أكثر من سبعين عاماً، فضلاً عن مئات الألوف منهم مشتتون في كافة أرجاء المعمورة، وهم في غالبيتهم العظمى مسجلون في كشوفات وسجلات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وهذه الحقيقة يعرفها العالم والمؤسسات الدولية فيما اختصرهم الرئيس ترامب في تصريحاته الكوميدية المضحكة بالرقم أربعين ألف لاجئ فلسطيني فقط، ويُمَثِل إنكار ترامب لوجود ستة ملايين لاجئ فلسطيني إنكاراً للمذبحة والتطهير العرقي الذي تعرض له شعبنا الفلسطيني عام 1948، كما يمثل امتداداً للمقولات الصهيونية التقليدية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وأيضاً "لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطين"، التي شكلت مقدمات لارتكاب تطهير عرقي للفلسطينيين ونفياً لهم من التاريخ والجغرافيا، وبهذا الموقف الأخير لرئيس الولايات المتحدة كأن فصلاً جديداً من فصول محاولات تصفية القضية الفلسطينية قد بدأت بالفعل، وهو ما يستدعي إعادة روايتنا كفلسطينيين وعرب لمجابهة هذا المخطط القديم الجديد.

ومواقف الولايات المتحدة المساندة بالمطلق لدولة الكيان الصهيوني قديمة قدم المشروع الصهيوني، خصوصاً في قضية اللاجئين التي تشكل لب القضية الفلسطينية، حيث سعت الولايات المتحدة إلى تصفيتها منذ أيامها الأولى من خلال مشاريع التوطين في الدول العربية المضيفة، ومن بين هذه الخطط خطة "جورج ماك" في ٢٥/٤/١٩٤٩ الداعية إلى توطين نصف مليون لاجئ فلسطيني في الدول العربية، وبتكلفة تصل إلى ٢٥٠ مليون دولار في عهد إدارة "ترومان"، وفي هذا فتحت هذه الإدارة للإدارات الأمريكية اللاحقة الباب واسعاً لتبني الموقف الصهيوني من قضية اللاجئين والضرب بعرض الحائط كافة قرارات الشرعية الدولية وأبرزهم قرار ١٩٤ القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم.

كما ينبغي التذكير بأن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم كانت إحدى الشروط التي وضعت كإحدى شروط الاعتراف "بإسرائيل" في الأمم المتحدة عام ١٩٤٨، وبهذا مثلت قضية عودة اللاجئين حق سياسياً وشرعياً وطبيعياً وقانونياً وإنسانياً وأخلاقياً بصرف النظر عن الموقف الصهيوني الرافض لعودتهم.

وبموقف ترامب الأخير وطمسه لقضية اللاجئين، إضافة لعشرات المواقف الشاذة في سياساته ومواقفه من قضايا العالم، تكون الولايات المتحدة في عهد ترامب، قد دخلت في عصر الامبراطورية المنحطة والبهيمية، وهو عصرٌ يتسم بالتعفن والانحطاط والعنف والابتزاز والعنصرية والاستهزاء بآلام الشعوب وحقوقهم، والاستهتار بالقانون الدولي والاستخفاف بالمؤسسات الدولية، عصرٌ يتسم بالكذب الصريح والدجل والبلطجة والعربدة واحتقار الشعوب في التنصل من الاتفاقيات الدولية.. الخ، وهي علامات انحطاط الامبراطوريات ومقدمات اندثارها في التاريخ.

ومن المفارقات أن الرقم ستة مليون لاجئ فلسطيني الذين شطبهم ترامب وأنكر مأساتهم واختصرهم برقم أربعين ألفا وحسب، ولم يتصدَ أحد لأكاذيبه سوى ذات الرقم ستة مليون يهودي الذي تزعم الدوائر الصهيونية أنهم ذهبوا ضحية للمحرقة النازية، حتى بات هذا الرقم أيقونة مقدسة، علماً بأن الإبادة النازية شملت عشرات الملايين من الروس والسلاف والغجر والمرضى والمعاقين، إلا أن الصهاينة اختزلوا "الهولوكوست" بالستة ملايين يهودي ولم يسمحوا بالتشكيك بهذا الرقم، ومن كان يتجرأ في التنقيب والبحث في هذه النزاهة سرعان ما يتعرض للتشهير والترهيب والاتهام بالعنصرية والنازية واللاسامية، وباتت قضية إنكار الإبادة النازية بحق ستة مليون يهودي والتشكيك بها هي جريمة يعاقب عليها القانون في كثير من الدول الغربية، وجرت ملاحقات قضائية ومحاكمات أبرزها محاكمة المفكر الفرنسي "روجيه جارودي" في تسعينات القرن الماضي، وأتهم بالعنصرية واللاسامية لمجرد أنه شكك في صحة الرقم ستة مليون.

وفقط للتذكير ببعض الدراسات التي شككت في مزاعم الصهيونية حول الرقم الأيقوني المقدس (ستة مليون يهودي)، الذين ذهبوا ضحية للإبادة، فقد أورد الباحث "راؤول هيلبرغ" في كتابه "إبادة يهود أوروبا" الصادر سنة ١٩٨٥ أن الرقم هو خمسة ملايين وليس ستة ملايين، أما "سيسيل روث" في موسوعته اليهودية، فأكد أن الرقم هو أربعة ملايين ونصف المليون، وهذا الرقم أيضاً أكده المؤرخ الأمريكي اليهودي"فوردفخار" وفي السنوات الأخيرة ذكر المؤرخ الإسرائيلي "يهودا ياور" مدير قسم دراسات الهلوكوست، في معهد دراسات اليهود في العصر الحديث، التابع للجامعة العبرية، أن الرقم ستة ملايين لا أساس له من الصحة، وأن الرقم الحقيقي أقل من ذلك بكثير، وبين المؤرخ الفرنسي "جورج ويلير" أن العدد الإجمالي لمن أبيدوا في "اوشفيتس" من اليهود وغير اليهود ليس أربعة ملايين وإنما 1.6 مليون وحسب، وأن هؤلاء لم يقضوا حتفهم خلال أفران الغاز فقط، وإنما أيضاً بسبب الجوع والمرض والموت وأثناء التعذيب والانتحار.

ونحن كفلسطينيين لا يمكننا إلا إدانة هذه الإبادة النازية بحق الملايين من اليهود وغير اليهود، ولا يهمنا الأرقام إن كانت ستة ملايين أو مليون أو حتى عشرة، ولكن من حقنا أن نتساءل: هل يتعين علينا نحن دفع ثمن هذه الإبادة؟ وهل تبرر هذه الإبادة إقامة هذا الكيان الاستيطان العنصري على أرضنا؟ وإذا أرادت ألمانيا التكفير عن جريمة الإبادة كان الأولى بها منح اليهود قطعة أرض من أراضيها لإقامة دولتهم عليها، بدلاً من تعويض "إسرائيل" التي تدعي أنها تنوب عن الضحايا بمليارات الدولارات، وتدعيم آلاتها العسكرية الإجرامية وتشييد مستوطناتها على أرضنا؟ ألم تكن نكبة عام ١٩٤٨ إبادة بحق الشعب الفلسطيني بطرده من وطنه، وارتكاب المذابح بحقه التي لازالت مستمرة حتى يومنا هذا؟ وما هو الفارق بين الستة ملايين يهودي الذين جرت عملية إبادتهم على أيدي النازيين، وبين الستة ملايين لاجئ فلسطيني المصلوبين منذ سبعين عاماً على صليب "دولة إسرائيل، التي قامت على أنقاض مدنهم وقراهم، وما فتئوا يتزايدون مع الوقت، ولا تتناقص أعدادهم كما تتناقص أرقام ضحايا الإبادة النازية.

وللتذكير بأعداد اللاجئين الفلسطينيين فإن عددهم في آخر الإحصائيات الصادرة عن مراكز الإحصاء الفلسطينية والدولية، يصل إلى ستة مليون لاجئ، موزعون على النحو التالي: ٢.٢ مليون لاجئ فلسطيني في الأردن، و ٥١٣ ألف لاجئ فلسطيني في لبنان، و ٦١٨ ألف لاجئ فلسطيني في سوريا، و ٩٩٧ ألف لاجئ فلسطيني في الضفة ١.٤ مليون لاجئ فلسطيني في قطاع غزة، وحوالي ٣٠٠ ألف لاجئ فلسطيني يتوزعون على باقي أرجاء المعمورة.

وللتذكير أيضاً فإن عدد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين تصل إلى ٥٨ مخيماً ١٠ مخيمات منها في الأردنو ١٢ مخيماً في لبنان و ٩ مخيمات في سوريا و ١٩ مخيماً في الضفة و٨ مخيمات في قطاع غزة.

فكيف يمكن اختصار قضية اللاجئين بالرقم ٤٠ الف لاجئ وحسب؟ وحتى تكتمل مفارقات الرقم ستة مليون فإن عدد سكان الدولة الصهيونية اليهود يصل إلى ستة مليون مستوطن، وهذه الدولة التي نصبّت نفسها ممثلا لكافة اليهود في العالم سنت عدداً من القوانين العنصرية، أبرزها قانون العودة الذي منح حقاً لستة مليون يهودي يعيشون في أوطانهم الأصلية في كافة أرجاء العالم، ولا يربطهم أي صلة ب فلسطين منحهم الحق بالهجرة لدولة الكيان واكتساب المواطنة الفورية، وفي هذا الوقت يعيش على أرض فلسطين ٦ مليون فلسطيني، هم أصحاب البلاد الأصليين، يعيشون في ظروف قاسية تحت الاحتلال وتعتبرهم دولة الاحتلال أنهم موجودون بالصدفة، وتطالب أحزابها العنصرية بطردهم من بلادهم، كما وتحرم ستة مليون لاجئ فلسطيني شردتهم العصابات الصهيونية من العودة إلى ديارهم وأراضيهم، وفوق كل ذلك جرت عملية اختزالهم بعشرات الألوف من جانب رئيس الولايات المتحدة وبمباركة وتشجيع من دولة الكيان.

يتعين علينا كفلسطينيين التمسك بإصرار بحق العودة، وعدم السماح إطلاقاً بالمساومة عليه، وعلينا ملاحقة ومقاضاة من ينكر ويشكك بأعداد هؤلاء اللاجئين وتجريمه ووضعه في مصاف من ينكر جرائم الإبادة النازية، أما القضية الهامة الأخرى، فعلينا مطالبة الأمم المتحدة بمراجعة قرارها الخاص بالاعتراف "بإسرائيل"، لأن هذا الاعتراف كان مشروطاً بعودة اللاجئين، وبما أن هذه العودة لم تتحقق بعد، فإن الأمم المتحدة مطالبة بإعادة النظر باعترافها بهذا الكيان الاستيطاني الغاصب.