دخول عاماً جديداً

يكتب الأسير كميل ابو حنيش في الذكرى الـ 17 الاعتقال الرفيق وائل الجاغوب

المصدر / خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

رفيقي وائل عمت صباحاً، انها الساعة الرابعة من فجر الأول من أيار من هذا العام عام 2016 ولازلت اتقلب في فراشي ولم يتسلل بعد النعاس إلى جفوني، وفجأة تذكرت انه ذات اليوم الذي ولجت فيه قدميك إلى الأسر قبل 15 عاماً، وقبل اسبوعين فقط في الخامس عشر من نيسان ذكرى اعتقالي انا الآخر، وأكون به قد اكملت ثلاثة عشر عاماً في الأسر، وها انا اخط لك هذه الرسالة وانت على بعد صرخة واحدة مني في الغرفة المقابلة، اما كان يتعين علي ان انتظر الصباح واقول لك مداعباً "كل عام وانت بخير" ام ان قلمي الذي اعتاد ان لا يهجع وان لا يدعني كي انام وهو يوسوس لي كي التقطه، أشعل ضوئي بهدوء واوقد سيجارتي وارتشف بقايا فنجان القهوة، كإحدى طقوس الكتابة في هذه الساعة ، وقع المحظور اذن وكان علي ان اطرد نعاسي الثقيل وقد كنت اتهيأ لأنال قسطاً من النوم قبل المحاضرة الجامعية التي يتعين علي اعطائها للطلاب في الصباح، ولكن لتذهب هذه المحاضرة إلى الجحيم بعد ان داهمني طيف الزمان الماضي، كالذي يعبث بخلية النحل ولم ينال منه سوى الطنين واللسع، ويا لطنين ولسع الأول من ايار قبل 15 عام.

كنا قبلها بيوم قد خرجنا برفقة مجموعة في احدى مهماتنا التي لم يقدر لها النجاح على احدى المحاور الشمالية لمدينة نابلس، وكان يتعين علينا ان نعوض هذا الاخفاق بمهمة اخرى في المنطقة الشرقية.

المجموعة جاهزة والسيارة جاهزة وعلينا ان ننتظر الفجر موعداً لتنفيذها، وكالعادة لم يتسنى لي الرقاد ليلتها، ونحن على موعد مع الفجر، لم يكن بيتكم يبعد عن مكان اختبائي سوى القليل، وكان عليك ان تأتي بالسيارة لاصطحابنا إلى الهدف، بيد ان انضمام رفيق آخر للمجموعة حال دون خروجي معكم، وصار الاتفاق ان توصل الرفاق للهدف وتعود لاصطحابي لنشرف معاً على تنفيذ العملية، وبقيت وحدي على قارعة الانتظار اشعل سيجارة تلو الأخرى، منتظراً بزوغ الفجر واتصال من جانبك، وبعد كم من الانتظار جاء هاتفك اخيراً لتخبرني ان المرحلة الأولى قد تمت، وانه لأسباب عملية لن تأتي لاصطحابي لخطورة الموقف، وانك تنتظر انتهاء الرفاق من المرحلة الثانية لإعادتهم لقواعدهم بسلام، وعدت انتظر وكان انتظاراً قاسياً يصاحبه القلق، وعقارب الساعة تتباطئ ولا شيء غير القلق والانتظار.

الساعة السابعة صباحاً احاول الاتصال بك، إلا ان الهاتف كان مغلقاً على غير العادة، أعيد الاتصال مرة اخرى وأخرى، ووتيرة القلق تتعالى بالتدريج، وفي هذه الأثناء يأتيني اتصال من احد افراد المجموعة ليفجر قنبلة في اذني "اعتقلوا وائل"، كيف ومتى وأين ولماذا؟ اسئلة تتصارع ولم يعد لها أي ضرورة او أهمية، فالنتيجة في تلك اللحظات انك وقعت بين ايديهم بين مطاردة ساخنة، اشبه بما يجري بالأفلام السينمائية، وعلى بعد أمتار قليلة من حاجز السلطة، وعلى مرأى من أعينهم وعلى وقع مسامعهم جرى اعتقالك، دون ادنى احتجاج من بنادقهم على الحاجز، او حتى ادنى احتجاج لفظي وكأن صمتهم وقلة حيلتهم وعجزهم هو سيد الموقف في مثل تلك الساعات العصيبة، اما ان فكانت الصدمة الأصعب احتمالاً، فليس ذلك لأنك الأحب إلى نفسي فحسب، وليس لأننا خسرنا قائداً ميدانياً ومتمرساً فحسب، وليس القلق على سلامتك وما سيحل بك بعدها فحسب، فإن ما كان جل همي منصباً عليه في تلك اللحظة، كيف سأزف الخبر إلى والدتك، التي عتدنا سوياً ان نتناول افطارنا على مائدتها كل صباح طيلة الأشهر الماضية، وبأي وجه سأوجهها وهي التي انتظرت تحررك من الأسر الاول طيلة ستة سنوات، لتعود إليه مجدداً وهذه المرة بمحكومية السجن المؤبد.

لقد كان الأول من أيار من ذلك العام وقبل خمسة عشر عاماً اسوأ ايامي على الإطلاق، المشاعر متضاربة والاعصاب متحطمة وكان علي ان اواجه الموقف الأصعب يومها، إبلاغ الوالدة بالأمر حتى لا يتسرب الخبر إليها بصورة تعقد المشهد المعقد أصلاً، وبخطوات يائسة محبطة، وكمن يُساق للإعدام، اتخذ خطاي إلى جهة بيتكم متمنياً لو تطول المسافة، لو تنشق الأرض وتبتلعني، لو اضيع في الطريق، لو اصحو وكأن ما يحدث كان كابوساً، ولكن هيهات.

في الساعة الثامنة صباحاً أطرق باب منزلكم بهدوء نحلة، وكانت كل الاحتمالات واردة في تلك اللحظة ان اعود ادراجي وأفر من المكان، لأوفر على نفسي هذه المهمة الصعبة، ان ابلغ الخبر لمن يفتح الباب وأعود مسرعاً، ربما سأتلقى تقريحاً او عتاب مؤلماً، وابتسم في سخرية (وهل يتعين على والدتك استقبالي بالزغاريد والاحضان على هذه البشرى السارة!!) واعيد طرق الباب بخوف طفل يخشى ان يضبطوه وهو يقطف من عنب الجيران، وكم كنت اتمنى حينها لو يبقى الباب موصداً في وجهي ولكن عبثاً، ينشق الباب ويظهر وجه رندة الطفولي الجميل، بابتسامتها الحلوة التي ليست في موعدها وتفتح لي الباب بالدخول، ولم اكد اتخطى عتبة الباب حتى ظهرت الوالدة متعثرة بنعاشها وكمن يحدث خبر سيئاً بصوتها (صباح الخير، شو وين وائل؟) .. نطقت عبارتها وهي يساورها قلقاَ باهضاً، وكان صمتي المطلق حينها له طعم المرارة ورائحة الخيبة، وبصوت لا يشبه صوتي ولا اعرف كيف اخرجته من اعماقي صوتاً شاحباً وممزقاً قلت (مسكوه) ،، صمتت قليلاً وحدقت في وكأنها تنتظر مني الإفصاح عما يجري وان ما نطقته لتوي مجرد مزح، ثم ما لبثت ان حافظت على رباطة جأشها وتماسكها وسألتني سؤالاً آخر كمن يبحث عن أمل اخير (مين اللي مسكوه، السلطة؟؟) ، اجيب عن السؤال كتلميذ يتمنى لو يجيب عن هذا السؤال الخاطئ بالتأكيد، ولكن انى لي الاجابة الصحيحة (لا مسكوه الاحتلال) ، يومها شهدت مشهداً يأبى ان يفارق مخيلتي واستقر في اعماقي، صرخت امك بوقار ملكة، وبكت بجلال اميرة، ولطمت خدها بمهابة سيدة بهية، وفي لحظات قليلة استعادت تماسكها ورباطة جأشها واستقرت ملامحها بشكل امومي جليل، عندها ادركت سر عظمة امك، واختصرت بذلك المشهد الأم الفلسطينية المناضلة التي تأبى ان تخدش قداسة النداء الوطني، وان يجب علينا صون الكبرياء خوفاً من شماتة الاعداء، حتى لو لم يكونوا قبالتنا.

 عند ذاك المشهد احببت تلك المرأة واحسست بأنها أمي التي لم تنجبني، تلك التي علمتني في لحظات معنى الامومة في صورتها القوية المتينة.

وها انا وانت ومعنا جموع الرفاق خلف الأبواب الموصدة، ننتظر الفجر القصي، قبل الانعتاق بقليل.

وإلى امنا الغالية ام وائل اقول في هذا الصباح: صباح الخير يا صباح، هيئي لنا الإفطار فإننا قادمين، تأخرنا فقط خمسة عشر عاماً عن الموعد، والشاي اظنه لازال ساخنا ولا اظنك تيأسين من الإنتظار عاماً آخر، وربما عامين، ولكن من المؤكد اننا قادمون يا أمنا انتظري فإننا قادمون.